منذ عقود، مثّل الجناح الأميركي في بينالي البندقية واحداً من أهم أدوات القوة الناعمة التي تستعرض بها الولايات المتحدة صورتها أمام العالم. غير أنّ التطورات الأخيرة تكشف عن تحوّل لافت في هذا الدور، إذ أدخلت إدارة دونالد ترامب تعديلات على شروط التقدّم للمشاركة في الدورة المقبلة من البينالي (2026).
هذه التعديلات لم تُثِر النقاش فقط داخل الأوساط الفنية الأميركية، بل تجاوزت ذلك لتصبح مؤشراً على الكيفية التي يُراد بها إعادة صياغة الدبلوماسية الثقافية الأميركية بما يخدم أجندة سياسية محددة. في مقدمة هذه التغييرات، جاء التأكيد المتكرر لما يسمى القيم والاستثنائية الأميركية، مقروناً بحظر استخدام أي جزء من التمويل في دعم برامج التنوع والعدالة والشمول. لكن الأكثر إثارة للدهشة، وربما الأخطر من الناحية الرمزية، هو البند الذي ينص بوضوح على أنه لا يجوز استخدام أي من الأموال الممنوحة “لأي مدفوعات أو تحويلات إلى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)“.
إدخال هذا الشرط في وثيقة متعلقة بمشاركة فنية في البينالي بدا لكثيرين أمراً خارج السياق تماماً، وكأنه إسقاط لملفات السياسة الخارجية الأميركية الأكثر حساسية داخل إطار ثقافي لا صلة له بها مباشرة. “أونروا” التي أُنشئت عام 1949 لتقديم المساعدات الإنسانية والتنمية للاجئين الفلسطينيين، ظلت لعقود جزءاً أساسياً من المنظومة الدولية لمعالجة آثار النكبة. غير أنها في السنوات الأخيرة تعرضت لحملة تشويه واسعة، خصوصاً التي آذارتها إسرائيل، إذ اتهمت المنظمة بـ”التواطؤ مع جماعات فلسطينية مسلّحة”، بل بـ”المشاركة غير المباشرة” في عملية طوفان الاقصى التي نفذها المقاومون الفلسطينيون في 7 تشرين الأول/تشرين الأول 2023. لاقت هذه المزاعم صدى داخل أروقة السياسة الأميركية، فسعى بعض المشرّعين إلى تصنيف الوكالة منظمةً إرهابية، على الرغم من أنّ هذا المقترح لم يُقرّ رسمياً.
إقحام مثل هذا الشرط في وثيقة ثقافية خاصة بالبينالي لا يمكن اعتباره مجرد تفصيلة إجرائية، بل هو انعكاس مباشر لانحياز إدارة ترامب الصريح لإسرائيل في واحد من أكثر الملفات حساسية في الشرق الأوسط. ومن زاوية رمزية، فإن التشديد على منع أي دعم محتمل لـ”أونروا”، حتى على مستوى التمويل غير المباشر من خلال منح ثقافية، يرسل رسالة قوية بأنّ واشنطن لا ترى في هذه الوكالة الأممية شريكاً شرعياً، بل تعتبرها جسماً مشبوهاً. هذا البند يثير تساؤلات عن طبيعة العلاقة بين السياسة والثقافة في السياق الأميركي. فإذا كان الهدف من مشاركة الولايات المتحدة في البينالي هو التعبير عن تعددية المجتمع الأميركي وانفتاحه على العالم، فإن إدخال شرط من هذا النوع يقلب المعادلة رأساً على عقب. إن مثل هذا الشرط يجعل من الجناح الأميركي منبراً لسياسة خارجية أحادية، ويحوّله إلى امتداد لصراع جيوسياسي لا علاقة له بالفن، بدلاً من أن يكون مساحة للتبادل الثقافي الحر.
الأمر لا يخلو من مفارقة، ففي الوقت الذي تُصر فيه الإدارة على أن المشروعات الفنية المشاركة يجب أن تكون غير سياسية، تأتي هذه الإضافة لتُسيّس المشاركة عبر تصفية حسابات مع مؤسسة إنسانية دولية مرتبطة بحقوق الفلسطينيين، ما يجعل مشاركة الولايات المتحدة في البينالي محكومة سلفاً بإطار أيديولوجي يختزل القيم الأميركية في انحياز واضح لإسرائيل، ويقصي أي محاولة لمقاربة الفن من زاوية إنسانية شاملة. تداعيات هذا القرار لا تتوقف عند حدود الساحة الفنية، فالصورة التي تبنيها الولايات المتحدة لنفسها من خلال جناحها في البينالي هي صورة دبلوماسية بامتياز. وإذا كانت هذه الصورة تُطبع بعلامة الانحياز المسبق ضد الفلسطينيين، فإنها بذلك تخسر كثيراً من قدرتها على الإقناع في عيون جمهور عالمي ينظر إلى الفن باعتباره مجالاً للتنوع والحوار، بل يمكن القول إن هذا البند وحده كفيل بأن يحوّل الجناح الأميركي إلى موضوع جدل دولي، ليس بسبب ما سيُعرض فيه من أعمال، بل بسبب ما يحمله من رسائل سياسية متناقضة.
كان يُفترض أن يشكّل الجناح الأميركي نموذجاً لانفتاح الولايات المتحدة على قضايا العالم الكبرى، من التغير المناخي إلى العدالة الاجتماعية مروراً بالهجرة وحقوق الأقليات. لكن إدخال “أونروا” في قائمة المحظورات يبعث برسالة معاكسة تماماً، مفادها أن المشاركة الثقافية الأميركية باتت محكومة بمعايير أيديولوجية ضيقة، وأنّ صورة أميركا في العالم لم تعد تُرسم عبر التعددية، بل عبر حسابات سياسية آنية تصب في مصلحة طرف واحد. من هنا، فإنّ خطورة المسألة تكمن في رمزيتها، فبينالي البندقية ليس مجرد معرض فنون، بل هو مرآة كبرى للكيفية التي ترى بها الدول نفسها وتعرضها على العالم. وإذ تختار الولايات المتحدة أن تجعل من مشاركتها مناسبة لتأكيد ولائها لإسرائيل حتى في التفاصيل الثقافية، فإنها بذلك تقدم نفسها للعالم ليس بوصفها قوة حامية للتعددية، بل طرفاً منغمساً في صراعاته الداخلية والخارجية. وهذه صورة يصعب على القوة الناعمة الأميركية أن تبررها أو أن تخفف من وطأتها، مهما حاولت.