الاختفاء القسري… مصير عشرات آلاف السوريين مجهول

بعد أكثر من ثمانية أشهر على إسقاط النظام السوري السابق، وفتح سجونه وتفريغها، لا يزال مصير آلاف المعتقلين السوريين مجهولاً، خصوصاً من تعرضوا للاختفاء القسري على مدار سنوات.

اختفى آلاف السوريين خلال سنوات الحرب السورية منذ عام 2011، عقب اعتقالهم على الطرقات أو في الحواجز الأمنية أو من أماكن عملهم وسكنهم، من دون مذكرات اعتقال، ومن دون أن يكشف عن أماكن وجودهم، أو يسمح لعائلاتهم بالتواصل معهم، أو معرفة مصيرهم، وتنتظر آلاف العائلات إجابات واضحة عن مصير أبنائها، وتقديم المسؤولين عن اختفائهم القسري إلى العدالة.
ويعرّف القانون الدولي الاختفاء القسري

بأنه توقيف أو احتجاز فرد على يد دولة أو جهة ما، يتبعه اختفاء مصير الشخص أو مكان وجوده، بما يضعه خارج حماية القانون. وتعتبر الشبكة السورية لحقوق الإنسان أنّ المختفي قسرياً هو مُعتقل مضى على احتجازه أكثر من 20 يوماً من دون إقرار الجهة التي اعتقلته بوجوده لديها مع إنكارها معرفة مصيره.
وتقدر الشبكة السورية لحقوق الإنسان عدد المختفين قسرياً بأكثر من 177 ألف شخص حتى 20 آذار/ آذار الماضي، والغالبية العظمى منهم اختفوا على يد أجهزة النظام السابق، مع مسؤولية فصائل وجماعات أخرى عن الاختفاء القسري بدرجات أقل.
فقدت السورية سارة البرهوم زوجها بينما كان متوجهاً إلى عمله سائقَ أجرة في مدينة حلب، في أواخر عام 2013، ولاحقاً فقدت الأمل في معرفة مصيره. تقول النازحة والأم لخمسة أبناء من ريف حلب الغربي لـ”العربي الجديد”: “أين هو؟ أستيقظ كل يوم على السؤال ذاته من أبنائي وأقربائي، لكنه سؤال لا جواب له، ولم يعد الأمل يخفف الألم. صار العذاب الأكبر أن لا تعرف شيئاً عن شخص كان كل شيء في حياتك. إنها قسوة لا توصف”.
تضيف البرهوم: “انقطع الأمل من كل جهة بعدما سألنا كل من يمكن أن يعرف، وقدمنا بلاغات، وسمعنا وعوداً كاذبة كثيرة. النهاية دائماً هي نفسها، صمت مطبق، كأنه اختفى في بطن الأرض. لم نعد نعرف من نسأل، ولم نعد نثق بأحد. الموت له طقوسه المعروفة، وتشمل التشييع، وقبور نزورها ونبكي عليها، أما الاختفاء القسري فهو موت بلا نهاية، وألم بلا عزاء. أشعر بأنني أسير في دائرة لا مخرج منها، واليأس يأكل قلبي وقلوب أبنائي الذين يكبرون وهم يكررون سؤالاً بلا إجابة. منذ التحرير وإفراغ السجون ينتابني يقين بأنه ميت، وإلّا أين هو طوال تلك المدة؟ هل يمكن أن يكون قد فقد الذاكرة؟ أم في سجون قسد؟ أم في إحدى المقابر الجماعية؟ لا شيء مؤكداً، هذه هي حياتنا. جحيم لا ينتهي”.
قبل نحو عشر سنوات، فقدت النازحة المسنة رابعة الشبيب ابنها الذي كان متجهاً إلى جامعته في حمص، وتقول لـ”العربي الجديد”: “هُجّرنا من إدلب حاملين ذكريات البيت الذي هُدم، والممتلكات التي سلبت، لكن أقسى ما حملناه كان عدم معرفة مصير ابني المختفي، ولم تخفف السنوات الألم، بل زادته مرارة، واليأس من أن نعرف الحقيقة صار رفيقاً لنا منذ إفراغ السجون. يأس من أن نجد من يستمع، ويأس من أن يتحقق العدل. العالم يتحدث عن حقوق الإنسان، ونحن لا نملك حتى حق معرفة مصير أبنائنا، وقد سئمنا الانتظار، وسئمنا البحث، وسئمنا الصمت، واستنفدنا كل دموعنا وصبرنا”.

تحمل صورة ابنها المفقود، دمشق، 3 كانون الثاني 2025 (عز الدين قاسم/الأناضول)

تحمل صورة ابنها المفقود، دمشق، 3 كانون الثاني 2025 (عز الدين قاسم/الأناضول)

وترجح مصادر حقوقية مقتل نحو 112 ألف مختفٍ داخل سجون النظام السابق. يقول الحقوقي السوري أمجد الغريب لـ”العربي الجديد”: “ما حدث بعد سقوط النظام شكل صدمة كبيرة لأهالي المعتقلين والمفقودين الذين كان لديهم بعض الأمل بأن يكون أولادهم في تلك السجون. لكنها كانت أشبه بمسالخ بشرية تُآذار فيها مختلف أنماط التعذيب، وتنتشر بداخلها أخطر أشكال الأمراض والأوبئة، ومن الواضح أن معظم المختفين قسرياً قضوا في السجون عبر سياسة ممنهجة اتبعها نظام الأسد”. يتابع الغريب: “رغم تفشي اليأس من معرفة مصير المختفين قسرياً، لكن قانونياً لا يمكن إغلاق ملف المختفي سوى بإحدى طريقتين، إما إثبات أنه على قيد الحياة عبر العثور عليه، أو إثبات أنه متوفى عبر العثور على جثمانه، وهناك مساران رئيسيان، أولهما العثور على سجون سرية إضافية، وثانيهما اكتشاف مقابر جماعية”.
وسط انتقادات حقوقية تطاول القوى العسكرية المختلفة في شمال وشرق سورية، وأبرزها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والجيش الوطني السوري، لا تزال حالات الاختفاء القسري هاجساً يقلق السكان. وشارك عشرات من أهالي المختفين قسرياً، يوم الخميس الماضي، في وقفة احتجاجية بمدينة القامشلي في ريف الحسكة، للمطالبة بالكشف عن مصير أبنائهم الذين لا يزال مصيرهم مجهولاً.
يعتقد السوري عبد الكريم رشيد عثمان بأنّ ابنه المفقود منذ عام 2019 لا يزال محتجزاً بشكل غير قانوني لدى فصيل “أحرار الشرقية”، ويشير إلى أنّ العائلة لجأت في وقت سابق إلى منظمات حقوقية، من بينها الصليب الأحمر الدولي، لكن تلك الجهات لم تتدخل بحجة أن الملف خارج صلاحياتها، وأن هذه الفصائل كانت تصنف سابقاً إرهابية، لكنها اليوم باتت ممثلة في بعض المناطق، إذ جرى تعيين المسؤول في “أحرار الشرقية” حاتم أبو شقرا ممثلاً عن محافظات الرقة والحسكة ودير الزور من قبل الرئيس السوري أحمد الشرع.

والد مفقود خلال وقفة في دمشق، 3 كانون الثاني 2025 (عز الدين قاسم/الأناضول)

والد مفقود خلال وقفة في دمشق، 3 كانون الثاني 2025 (عز الدين قاسم/الأناضول)

ويضيف عثمان: “نطالب بتدخل عاجل للكشف عن مصير المفقودين، فقضيتنا ليست فردية، بل قضية آلاف العائلات التي فقدت أبناءها وما زال مصيرهم مجهولاً. كان الهدف من وقفتنا الأخيرة هو إيصال الصوت إلى الجهات المعنية ومنظمات حقوق الإنسان باعتبارها قادرة على الضغط من أجل معرفة مصير المفقودين والمخطوفين، سواء الذين اختطفهم تنظيم داعش، أو الذين اعتقلهم النظام السابق. هذه المعاناة هي جرح مشترك يجب أن يتقاسمه الجميع، ونطالب بإنشاء محكمة دولية أو إقليمية في سورية، تكون معنية بكشف مصير المفقودين، وتوضيح الحقائق بعد سقوط النظام ورحيل داعش، وعلى الحكومة الحالية التحرك الجاد، لأنّ استمرار الغموض يزيد حجم الألم الذي يعيشه ذوو المفقودين”.
من جانبه، يقول المحامي معاذ يوسف، وهو عضو المكتب القانوني للمجلس الوطني الكردي في شمال شرقي سورية، لـ”العربي الجديد”، إنّ “القانون الدولي ومختلف الاتفاقيات والمعاهدات تجرّم الاختفاء القسري باعتباره فعلاً منافياً للإنسانية، ومن بينها الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري الصادرة في عام 2006، والتي دخلت حيز التنفيذ عام 2010. ربما يكون ضحايا الاعتقال التعسفي أحسن حالاً من ضحايا الاختفاء القسري، فهؤلاء اعتقلوا لأسباب غير قانونية، لكن السلطة مرتكبة الانتهاك اعترفت بوجودهم في المعتقل، ما يجعل الجريمة أقل وطأة على الضحايا وذويهم، بينما ضحايا الاختفاء القسري يجرى حجز حريتهم من دون أن تعترف السلطة المرتكبة للانتهاك بقيامها بهذا الفعل، ما يحرمهم من أي حماية قانونية أو متابعة من ذويهم”.

يضيف يوسف: “جميع سلطات الأمر الواقع والفصائل المسلحة في كامل الجغرافية السورية ارتكبوا هذا الفعل الإجرامي، وجرى الإفراج عن بعض المختفين، لكن بقي مصير الكثيرين مجهولاً. المطلوب تطبيق قواعد العدالة الانتقالية وفق المعايير الدولية، فتطبيقها هو الكفيل بتضميد جراح السوريين، ومن ثم إصدار قرار على المستوى الوطني ببيان مصير المختفين ومحاسبة جميع مرتكبي هذه الفظائع من أجهزة القمع في النظام البائد وجميع الفصائل وسلطات الأمر الواقع أمام محاكم وطنية نزيهة، وتعويض الضحايا وذويهم”.
وتظهر تقارير حقوقية استمرار جرائم الاعتقال والاختفاء القسري في سورية بعد سقوط النظام السابق، وسجلت الشَّبكة السورية ما لا يقل عن 109 اعتقالات تعسفية في تموز/ تموز الماضي، من بين المعتقلين خمسة أطفال، وكانت 12 حالة منها على يد قوات الحكومة السورية، و36 احتجازاً تعسفياً على يد قوات سوريا الديمقراطية، من بين المعتقلين خمسة أطفال.
وتُظهر البيانات أنَّ العديد من عمليات الاحتجاز تتم من دون مذكرات قضائية أو ضمانات قانونية، ما يشكّل انتهاكاً واضحاً للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي يحظر الاعتقال التعسفي، ويؤكد على حقِّ المحتجزين في معرفة أسباب احتجازهم، والمثول أمام القضاء في أسرع وقت ممكن.