في مثل هذا اليوم من كلّ عام، تُنكأ جراح كثيرين، إذ يستذكرون أحبّاء يُطلق عليهم “مفقودون” أو “مخفيون قسراً“. ويعاني لبنان خصوصاً في هذا المجال.
في عام 2010، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة 30 آب/ آب من كلّ عام يوماً عالمياً لضحايا الإخفاء القسري من أجل تذكير العالم بالمصير المجهول لآلاف الأشخاص المغيَّبين قسراً، وبما تعانيه عائلاتهم العالقة في الانتظار. وفي لبنان، يحلّ هذا اليوم في هذا العام مع رمزية خاصة؛ في الذكرى الخمسين للحرب اللبنانية (1975) وما تلاها لم تجفّ دموع الأمهات اللواتي ما زلنَ يرفعنَ صور أبنائهنّ بحثاً عن حقيقة غائبة.
وكان قانون المفقودين والمخفيين قسراً قد أُقرّ في عام 2018 في لبنان قبل أن تُشكَّل في عام 2020 هيئة وطنية مستقلة لتولّي هذا الملف. لكنّ الأهالي، حتى اليوم، لم يتلقّوا خبراً واحداً عن أحبّتهم المفقودين، في حين لا قبور يزورونها، ولا شهادات وفاة، ولا أدلّة علمية لإثبات أيّ شيء… فراغ فقط يبتلع الأمل ويُطيل زمن الانتظار. وعلى مدى عقود، تنقّل هؤلاء بين المسؤولين، وطرقوا أبواب الوزارات والمحاكم، ونظّموا مسيرات، ورفعوا صور أبنائهم، ووقّعوا عرائض وطنية، متشبّثين بحقّهم في معرفة الحقيقة.
تقدّر المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي في لبنان عدد المفقودين بالبلاد بنحو 17 ألف شخص، لكن لا إحصاءات رسمية تحدّد العدد بدقّة. أمّا سجلات الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً فتضمّ أسماء أكثر من ألفَي مفقود، 94% منهم من الرجال و6% من النساء، علماً أنّ 79% من بينهم لبنانيون و15% فلسطينيون و2% سوريون و4% من جنسيات أخرى. وكان عام 1976، العام الثاني من الحرب اللبنانية، قد سجّل 468 مفقوداً، تلاه عام 1982 مع 452 مفقوداً.
تقول رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين، وداد حلواني، لـ”العربي الجديد” إنّ “اللجنة لم تتواصل مع 17 ألف عائلة مفقود، فهذه مهمّة الدولة”. تضيف: “نحن بادرنا، منذ تشكيل اللجنة في عام 1982، والحرب كانت لا تزال مشتعلة، إلى دعوة كلّ من فقد فرداً من أسرته إلى إدراجه في سجلاتنا. وتضمّ لوائح اللجنة ما بين 2500 و2600 مفقود”.
وتشدّد حلواني على أنّ “القضية لم تعد تحتمل الانتظار. هذه ليست قضية تحتاج إلى تدخّل أميركي أو إيراني، إنّها قضية داخلية ويجب أن تُحلّ. لا أحد يريد محاسبة المرتكبين على الماضي، لكنّ من يحرم الأهالي اليوم من حقّهم في معرفة مصير أحبّتهم هو المسؤول أمامنا وأمام التاريخ”.
وأدرج رئيس الحكومة اللبناني نواف سلام قضية المفقودين والمخفيين قسراً في البيان الوزاري الأخير، متعهّداً بأنّ حكومته سوف تعمل لتطبيق القانون ودعم الهيئة الوطنية. أمّا على الأرض، فلم يلمس الأهالي أي تقدّم في هذا الشأن. وتؤكد حلواني: “لم نلمس سوى اهتمام شفهي. تأمّلنا بالعهد الجديد، لكنّ شيئاً لم يتحقّق”، مضيفة أنّ الأمر يقتصر على “الكلام فقط”.
ووافق مجلس الوزراء، في حزيران/ حزيران الماضي، على مشروع مرسوم لتعيين عشرة أعضاء جدد للهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً بعد انتهاء ولاية الأعضاء الأوائل في تموز/ تموز الماضي الذي تبعه، لكنّ أيّ مرسوم لم يُصدر حتى الآن، ولم يقسم الأعضاء الجدد اليمين.
ويوضح المحامي زياد عاشور، رئيس الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً بالإنابة، أنّ “تأخّر المرسوم يعود إلى اعتذار أحد القضاة عن قبول المهمّة، الأمر الذي أوقف صدوره إلى حين تسمية بديل”. ويكمل: “لكنّ هذا غير مبرّر. ففي عام 2020، اعتذر أحد القضاة كذلك، ولم يؤخّر ذلك صدور المرسوم وأدّينا اليمين أمام رئيس الجمهورية”. ويلفت إلى أنّ “التأخير يبيّن أنّ القضية ليست من ضمن الأولويات”.
وإلى جانب العقبات الإدارية، يواجه ملف المفقودين في لبنان صعوبات تقنية كبيرة. في عام 2012، أطلقت اللجنة الدولية للصليب الأحمر مشروع جمع “معلومات ما قبل الإخفاء”، بما يشمل بيانات المفقودين وأخذ عيّنات حمض نووي من ذويهم، خصوصاً كبار السنّ منهم، استعداداً لأيّ كشف مستقبلي عن مقابر جماعية على سبيل المثال. وقد جُمعت نحو ألفَي عيّنة، لكنّها لم تُسلَّم بعد إلى الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً.
ويعيد عاشور السبب إلى أنّ “الهيئة تفتقر إلى البنية التحتية المؤهّلة لحفظ البيانات والعينات بطريقة آمنة، لذا بقيت لدى اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وقد نُقلت إلى خارج لبنان أخيراً بسبب الحرب (الإسرائيلية الأخيرة)، من أجل الحفاظ عليها”.
وفي عام 2023، ظهرت في مدوخا بقضاء البقاع الغربي (شرق) مقبرة جماعية يُرجَّح أنّها تضم رفات مقاتلين فلسطينيين تعود إلى زمن الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982. قبل ذلك، في عام 2005، كُشف عن مقبرة بالقرب من وزارة الدفاع الوطني في اليرزة بقضاء بعبدا (وسط). وفي مواقع أخرى، عُثر على رفات بلا هوية، كأنّما الماضي ينبش نفسه من تحت التراب ولا يجد من يجيبه. ويبدو أنّ التكنولوجيا وحدها لا تكفي، فالإمكانيات شحيحة، والبحث عن الحقيقة يصطدم دائماً بجدار الدولة العاجزة أو المتواطئة.
وفي كلّ مرّة يُكشَف عن رفات، تُنبش كذلك ذاكرة الأهالي الذين لم يهدؤوا يوماً. بعد 50 عاماً من اندلاع الحرب اللبنانية (1975 – 1990)، ما زالوا يرفعون صور أبنائهم في الساحات ويروون الحكايات في المعارض والندوات، فيحوّلون الغياب إلى حضور عنيد والوجع الفردي إلى قضية وطنية.
وداد حلواني ورفاقها لم يتعبوا، ولم يساوموا، ولم يهادنوا. هم يعرفون أنّ معركتهم ليست لتحديد مصير المفقودين فقط، بل هي من أجل الحقّ والاعتراف والذاكرة، للإثبات أنّ هؤلاء لم يتعرّضوا للإخفاء عبثاً، وأنّ وجودهم ليس قابلاً للمحو، حتى لو كان الاعتراف الأخير ورقة رسمية بعنوان “شهادة وفاة”.
“أين هم؟” سؤال ما زال يُطرَح منذ نصف قرن. كثيرات هنّ الأمهات اللواتي لم يتوقّفنَ عن التشبّث بصور أبنائهنّ، لم يتوقّفنَ عن انتظار المستحيل. بالنسبة إليهنّ، كلّ يوم يمرّ يعني تلاشي احتمال اللقاء. لكن ثمّة أمهات سلّمنَ الشعلة إلى أفراد آخرين من العائلة. وتقول وفاء حوحو، شقيقة المفقود اللبناني جمال، الذي خُطف في عام 1978 وهو في الثامنة عشرة من عمره، لـ”العربي الجديد إنّ “في البداية، كنّا نتلقّى أخباراً عنه. لكن بعد الحرب في سورية، انقطعت كلّ الأخبار. ما زلنا نعيش على الأمل. لا أستطيع أن أقطع الأمل لأنّني لم أرَ بعيني أيّ شيء”. بدورها، تقول فاطمة كبارة، شقيقة المفقود اللبناني محمد لـ”العربي الجديد”: “لو كانوا ميتين نعرف أنّهم ميتون، لكن هكذا لا نعرف عنهم أيّ شيء”، مؤكدةً أنّ “الأمر صعب جداً”.