“لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، ذلك هو الشعار الذي يبدو أنه سيتصدر مشهد حرب روسيا وأوكرانيا في الأشهر المقبلة، بعد تعثر مسار المفاوضات الروسية الأوكرانية وفشل الرهانات على تهدئة تعقب أول قمة بين الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين، والأميركي دونالد ترامب، في ولاية ألاسكا الأميركية في 15 آب/آب الحالي. وزاد فشل الأطراف المعنية بالأزمة الأوكرانية في التوصل إلى رؤية للتسوية، أو تجميد النزاع على الأقل، من تكهنات محللين سياسيين وعسكريين روس باستمرار أعمال القتال لعدة أشهر أخرى، إلى أن يتغير الوضع على الأرض، بما يملي على أحد طرفي الصراع تقديم تنازلات في مسار المفاوضات الروسية الأوكرانية مستقبلاً، وذلك في سبيل وقف المرحلة الساخنة من النزاع. وفي موازاة عجز الأطراف المعنية عن التوصل إلى صيغة ضمانات أمنية لأوكرانيا، ترضي موسكو وكييف على حد سواء، أفادت تسريبات إعلامية بقبول الكرملين تجميد أعمال القتال على خطوط التماس الحالية في مقاطعتي زابوريجيا وخيرسون الأوكرانيتين، في مقابل انسحاب القوات المسلحة الأوكرانية من مقاطعة دونيتسك في الشرق، وهو اقتراح لم يلقَ قبولاً لدى كييف وحلفائها الأوروبيين في المرحلة الراهنة على الأقل.
فشل قمة ألاسكا
في السياق، اعتبر المحلل السياسي المتخصص في الشأن الأوكراني المقيم في موسكو، ألكسندر تشالينكو، أن قمة ألاسكا كان محكوماً عليها بالفشل، في إحداث انفراجة في ملف المفاوضات الروسية الأوكرانية في ظل إصرار موسكو على قدرتها على النصر في حرب الاستنزاف طويلة الأجل، الذي يقابله الصمود الأوكراني في مناطق شمال مقاطعة دونيتسك منذ ثلاث سنوات. وأضاف تشالينكو، المتحدر من مدينة دونيتسك الأوكرانية وزار منطقة القتال منذ عام 2022 مرات عدة، في حديث لـ”العربي الجديد”: “كان محكوماً على قمة ألاسكا بالفشل سلفاً، والوضع الراهن لا يشكل مفاجأة كبيرة على من يتابع الأمر عن كثب. يتطلب التوصل إلى اتفاق سلام أن يكون أحد الطرفين يتكبد هزيمة يقابلها عجز الطرف الآخر عن تحقيق نصر كامل. هذا المطلب لا ينطبق حالياً على أوكرانيا، التي لا تزال قادرة على الحفاظ على مناطق شمال مقاطعة دونيتسك منذ ثلاث سنوات. إلا أنه لا ينطبق أيضاً على روسيا التي ترى نفسها قادرة على النصر في حرب استنزاف طويلة، ولو بلا نصر فوري”.
ألكسندر تشالينكو: تراهن روسيا على تكرار نموذج سقوط الأسد في أوكرانيا
وضرب تشالينكو مثلاً على ذلك، مستشهداً بسقوط النظام السوري في ظرف أيام معدودة، بعد سنوات من الانتصارات العسكرية بدعم من روسيا وإيران وحزب الله، مضيفاً: “في أحيان كثيرة، تتدهور أوضاع القوات والأنظمة السياسية تدريجياً، ثم تنهار بين ليلة وضحاها، وهذا ما تراهن عليه روسيا في أوكرانيا. ولذلك لا تهرع لعقد لقاء بين بوتين و(الرئيس الأوكراني فولوديمير) زيلينسكي، علماً منها مسبقاً أنه لن يقبل بشروطها في مسألة الانسحاب من مقاطعة دونيتسك، مقابل تجميد النزاع على خطوط التماس في زابوريجيا وخيرسون”. وأبدى تشالينكو اعتقاده بأن زيلينسكي لن يقبل بالشروط الروسية للتسوية لاعتبارات السياسة الداخلية الأوكرانية، قائلاً: “باعتقادي، يتمنى أغلب سكان أوكرانيا إنهاء الحرب ومستعدون للقبول بتنازلات حدودية في سبيل ذلك، ولكن القوميين هم المتحكم الفعلي في السياسات الأوكرانية، وهم قادرون على استبدال زيلينسكي في حال قدم تنازلات كبيرة لروسيا، خصوصاً أنهم يحظون في المرحلة الراهنة بدعم الدول الأوروبية الرائدة مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا”.
بدوره، لفت مؤسس مشروع فافتفور للتحليل العسكري والسياسي، سيرغي بوليتايف، في مقال بعنوان “في الحرب والدبلوماسية” نُشر بموقع مجلة “روسيا في السياسة العالمية”، إلى أن تكتل مدينتي بوكروفسك وميرنوغراد، الذي بلغ عدد سكانه قبل بدء الحرب في 24 شباط/شباط 2022 أكثر من 200 ألف نسمة، هو ثاني أكبر تكتل في مقاطعة دونيتسك لا يزال يخضع لسيطرة القوات المسلحة الأوكرانية، بعد تكتل سلوفيانسك – كراماتورسك (450 ألف نسمة في المرحلة ما قبل الحرب).
وأضاف أن الجيش الروسي بدأ منذ العام الماضي، بفرض قوس كلاسيكي حول بوكروفسك من ثلاث نواح، عبر وضع خطوط الإمداد تحت السيطرة النارية لاستنزاف القوات الأوكرانية، على أن تجري في المرحلة الختامية عملية اقتحام لن تستغرق وقتاً طويلاً، ولن تتطلب قوة كبيرة بعد إبعاد مجموعة القوات الأوكرانية بشكل شبه كامل. وشدّد على أن هذا الأسلوب أتاح إحكام السيطرة على مدن أفدييفكا وكوراخوفو وأوغليدار، وسودجا في مقاطعة كورسك الروسية، التي توغلت القوات الأوكرانية فيها في السادس من آب 2024، قبل إعلان بوتين استردادها في 26 إبريل/نيسان الماضي.
وأشار بوليتايف إلى أن هذه الأحداث تتطور على خلفية استئناف اللعبة الدبلوماسية حول ترامب، معتبراً في الوقت نفسه أن موسكو حققت نتيجة مرحلية مهمة، في سياق المفاوضات الروسية الأوكرانية تمثلت بتخلي ترامب عن مطلب الوقف الفوري لإطلاق النار، متحولاً بذلك من وسيط إلى مشاهد ومراقب “محايد نسبياً”. ومع أن مسألة الضمانات الأمنية ووضع أوكرانيا في مرحلة ما بعد الحرب تشكل مسألة “الحياة والموت” بالنسبة إلى زيلينسكي، وفق اعتقاد بوليتايف، فإنه خلص إلى أن روسيا تراهن على اختياره مواصلة الحرب التي بات الجيش الروسي جاهزاً لها بصورة أفضل من أي وقت مضى.
من جهته، رسم رسلان ليفييف، المدون الحربي الروسي المعارض، مؤسس مجموعة Conflict Intelligence Team المعنية بالتحقيقات في النزاعات العسكرية المقيم في الولايات المتحدة، في نشرته الأسبوعية على منصة يوتيوب، الأربعاء الماضي، ثلاثة سيناريوهات لتطور الأحداث في أوكرانيا. وأوضح أن السيناريو الأول هو “أن يقر ترامب بأن بوتين شخص غير قابل للتوصل إلى اتفاق معه”، ويستجيب لضغوط السياسيين الأوروبيين في مسألة تخصيص دعم عسكري كبير لأوكرانيا. أما ثاني السيناريوهات، فيتمثل في أن يخرج ترامب بنتيجة مفادها بأن زيلينسكي هو الطرف الذي لا يمكن الاتفاق معه، ويبدأ بالضغط على أوكرانيا عبر وقف بيع الأسلحة وتسليم البيانات الاستخباراتية. أما السيناريو الثالث، وفق ليفييف، فهو أن يقول ترامب إن الطرفين لا يتجاوبان معه، فينأى بنفسه عن الأزمة الأوكرانية. وخلص ليفييف إلى أن المفاوضات الروسية الأوكرانية وجميع اللقاءات والتعليقات والمقترحات سواء أكانت روسية أم أوروبية، تهدف إلى تحقيق أحد السيناريوهين الأول أو الثاني، عبر إظهار أن الطرف الآخر هو الذي يعرقل التسوية.
سيرغي بوليتايف: موسكو حققت نتيجة مرحلية مهمة تمثلت بتخلي ترامب عن مطلب الوقف الفوري لإطلاق النار
المرحلة التالية من المفاوضات الروسية الأوكرانية
في مقال بعنوان “ماذا يعرقل عقد لقاء بوتين وزيلينسكي؟” نُشر في صحيفة فزغلياد الإلكترونية الموالية للكرملين، الثلاثاء الماضي، لفت الأستاذ المساعد بقسم العلوم السياسية بالجامعة المالية التابعة للحكومة الروسية، غيفورغ ميرزايان، إلى أن ترامب وقادة الدول الأوروبية وزيلينسكي يرون أن انعقاد قمة روسية أوكرانية يجب أن يكون المرحلة التالية في المفاوضات الروسية الأوكرانية وعلى طريق عملية التسوية السلمية في أوكرانيا. واعتبر ميرزايان أن زيلينسكي يحاول ألا يسمح لترامب بمناقشة شروط صفقة السلام مع بوتين من دون أوكرانيا وعلى حساب أوكرانيا وهو بشخصه، لإثبات صلاحيته لمسار السلام، ووضع حد للأحاديث حول ضرورة استبداله باعتباره “رئيس الحرب”، وأخيراً “تحويل اللقاء مع بوتين إلى عرض من شأنه رفع معنويات السكان الأوكرانيين”.
وأشار ميرزايان إلى ما اعتبره “انعدام شخصية شرعية” في أوكرانيا يمكنها التوقيع على اتفاق سلام، إذ لا يمكن إجراء الانتخابات في أوكرانيا إلا بعد إلغاء حالة الحرب وانتهاء المرحلة الساخنة من القتال. وخلص كاتب المقال إلى أن تنظيم القمة يتطلب تعاوناً بين الهيئة الفيدرالية الروسية للحراسة وهيئة الحراسة الأوكرانية، وهذا غير وارد في ظروف انعدام الثقة، بينما لن تقبل موسكو وكييف تفويض مهمة تأمين رئيسيهما لدولة ثالثة. وكان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قد نفى في نهاية الأسبوع الماضي، أن تكون قمة ألاسكا قد تناولت إمكانية عقد لقاء بين بوتين وزيلينسكي، رابطاً في حديث لشبكة “إن بي سي” الأميركية عقد مثل هذا اللقاء بتوفر “الأجندة الرئاسية”، محمّلاً أوكرانيا المسؤولية عن عرقلة العملية السياسية.