ما إن سقط نظام الأسد، حتى بدأت القصص تُحاك عن سيناريوهات للتطبيع بين سورية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، وكأن مرحلة عزلةٍ طواها سقوط النظام، لتبدأ بعدها مرحلةٌ لانفتاح سوري على العالم، لا يكتمل سوى مع إنجاز هذا التطبيع. ومع ذلك بدأت الأنباء عن اجتماعات أمنية بين مسؤولي الطرفين تظهر، وبدأت معها مرحلة النفي والتكذيب. وتواترت تلك الأنباء وكانت تغيب ثم تعود إلى الظهور إلى أن أعلنت وكالة الأنباء الرسمية السورية (سانا) قبل أيام عن اجتماعٍ عُقد بين وزير الخارجية السوري ووفدٍ إسرائيلي في باريس، في 19 آب/ آب الجاري. ووسط النفي السابق والتأكيد الحالي، كذلك غياب الشفافية حول طبيعة اللقاءات وأهدافها، سيتساءل المواطن السوري عن جدوى تطبيع سورية مع دولة الاحتلال، إن حصل، في وقتٍ لم يُظهر فيه الإسرائيليون سوى الأعمال العدوانية، وقصف الأراضي السورية وقضمها، وهو ما يتناقض مع العرف العام الذي يقول بضرورة إظهار نيات حسنة قبل أي لقاء يندرج في ذلك السياق.
تختلف العوامل التي تحدّد العلاقة بين الدول العربية والكيان الإسرائيلي عن العوامل التي تحدّد هذه العلاقة بينها وبين أي كيان أو دولة أخرى. فهذا الكيان احتل أراضي دول عربية، وضم بعضها لتكون جزءاً من كيانه، فأقام عليها مستوطنات لمنع عودتها يوماً ما إلى سيادة دولتها، وبينها الجولان السوري المحتل. لذلك إن لم تكن هذه علاقة عداء، تسبّبت بها الجرائم التي ارتكبها هذا الكيان بحق أبناء تلك الدول، فهي علاقة ملتبسة يشوبها التوجس الدائم، توجُّس لم ينتفِ وبقي يلازم أحاسيس أبناء الشعوب العربية، حتى بعد مضي عقود على التطبيع بينه وبين عدة دول عربية. لذلك تبين أن هنالك فرقاً بين تطبيع الأنظمة والحكومات مع هذا الكيان وتطبيع الشعوب التي بقيت على مسافة بعيدة عنه، وربما على عداء مع سياساته، وفي كل الأحوال عدم اعتراف به. أما تطبيع الحكومات فأمر آخر، يُنجز في اللحظة التي تبدأ مع لقاء وفودها مع ممثليه مباشرة ومن دون وسيط ثالث، لأن تلك اللقاءات بمثابة اعتراف به، وكذلك اعتراف بشرعية احتلاله، حتى في غياب اتفاقات تنظم هذا الأمر.
تطبيع هذا الحكم مع الشعب السوري بكامل أبنائه وفي كل المناطق، يمكن أن يكون بديلاً عن أي تطبيع
وبناء على ذلك، تدخل المباحثات والمفاوضات المباشرة بين الحكومة السورية والكيان الإسرائيلي في خانة التطبيع والاعتراف. ويفسح الغموض الذي لفَّ المباحثات واللقاءات المجالَ واسعاً لفرضيات، تصل إلى حد انتظار مفاجآت مدوية من تلك اللقاءات، خصوصاً لقاء باريس، تكون من الضخامة إلى درجة أنها قد تصدم الشعب السوري وشعوب المنطقة وكذلك المتابعين والمحللين. وبما أن اجتماع باريس هو الرابع بين الطرفين، بحسب بعض المتابعين، بعد اجتماع أذربيجان، وربما أبوظبي وغيرهما، والأول الذي أعلنت عنه الحكومة السورية واعترفت به، ربما في محاولة للظهور بمظهر الشفافية، كان من المتوقّع أن تعلن هذه الحكومة عن بعض ما دار به. غير أن هذه الحكومة لم تكن لتعلن عنه إلا بعدما ساهمت بجعل المجال مفتوحاً لكثيرين لكي يزيدوا تكهناتهم وتحليلاتهم، علاوة على الانتقادات التي طاولتها من أبناء الشعب السوري وغيره، بسبب الغموض الذي تعمل وفقه، وعدم التصريح عن اللقاءات السابقة وعما دار فيها، وهو ما يدخل في خانة ازدراء هذا الشعب.
مهما يكن من أمر، أدارت الحكومة السورية الحالية هذه المفاوضات بطريقة تختلف عن المألوف، إذ كان من المفترض أن تشترط انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من المناطق التي احتلتها بعد سقوط نظام بشار الأسد، في الثامن من كانون الأول/ كانون الأول الماضي، نوعاً من إظهار الإسرائيليين حسن نياتهم، ولكي لا يظهر السوريون وكأنهم هم من يسعون إلى التطبيع بعدما كانت دولة الاحتلال تاريخياً هي التي تستميت لحصول ذلك. وبينما أفادت وكالة الأنباء السورية بأن المناقشات التي جمعت وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني مع وزير الشؤون الاستراتيجية ورئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي رون ديرمر، دارت حول خفض التصعيد في الجنوب السوري، وإعادة تفعيل اتفاق فض الاشتباك لسنة 1974، فإن ذلك يدلّ على أن الأهداف الأبعد، والمتعلقة بقضية الجولان السوري المحتل، لم تكن ضمن المداولات. لذلك فإن انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي السورية التي احتلتها بعد سقوط النظام، والتهدئة في الجنوب، أي السويداء، هو السقف الذي وصلت إليه المفاوضات، وليس قضية الجولان. ويدفع هذا الأمر السوريين إلى التساؤل عما إذا كانت المفاوضات ستفضي إلى التطبيع، أم إلى التهدئة فحسب، وهو ما لا يتطلب عقد لقاءات مباشرة، بل يكفي أن تتم عبر وسيط.
نظرة سريعة من رموز الحكم الجديد في سورية إلى تجربة الأردن ومصر في التطبيع مع الإسرائيليين ستُظهر لهم تواضع مكاسب هذين البلدين منه
ولكن ما الذي يمكن أن تجنيه سورية من التطبيع مع الإسرائيليين، إن كان هذا هو الهدف البعيد من اللقاءات والمباحثات، وتطبيقاً للشرط الأميركي لرفع العقوبات؟ في الشهر المقبل تحل ذكرى توقيع اتفاقية التطبيع بين الأردن ودولة الاحتلال، والتي مر عليها أكثر من ثلاثة عقود. وبهذه المناسبة، بدأت تظهر كتابات ودراسات حول ما جناه الأردن من تلك الاتفاقات. وإضافة إلى إشارتها للمقاطعة الشعبية لكل ما هو إسرائيلي، تناولت بعض تلك الدراسات آخر المؤشرات حول الاقتصاد الأردني، أظهرت ارتفاع الدين العام وكذلك معدل البطالة، خصوصاً بين الشباب، إضافة إلى تواضع معدلات النمو مقارنة بالخطط. أي أن التنمية والازدهار اللذين كانا مقرونين بالتطبيع، ذهبا أدراج الرياح.
لذلك فإن نظرة سريعة من رموز الحكم الجديد في سورية إلى تجربة الأردن ومصر في التطبيع مع الإسرائيليين، ستُظهر لهم تواضع مكاسب هذين البلدين منه، ويمكن لهذا الأمر أن ينطبق على بلادهم إن دخلوا في التجربة ذاتها وطبعوا مع الإسرائيليين، خصوصاً إذا لم يكن المقابل هو عودة الجولان كاملاً للسيادة السورية. ومن هنا، تطبيع هذا الحكم مع الشعب السوري بكامل أبنائه وفي كل المناطق، ومشاركته بالقرار واعتباره مصدر الشرعية، والتعويل عليه وعلى قدراته وعلى ثروات البلاد وإدارتها الإدارة المثلى، يمكن أن يكون بديلاً عن أي تطبيع إن كان المراد منه زيادة قوه البلاد ووضعها على سكة الازدهار.
وفي العودة إلى الإعلان الرسمي السوري عن لقاء باريس، ربما يكون المقصود به البدء في تحضير الرأي العام في الداخل لما ستعلن عنه الحكومة لاحقاً بعد لقاءات مقبلة، مخافة أن يكون رد الفعل الشعبي على أي اتفاقية تطبيع مفاجئة أو مجحفة بحقه، سلبياً وربما عنيفاً يطيح بالحكومة، بعدما ذاق الشعب السوري مرارات كثيرة تسبب بها الإسرائيليون مذ احتلوا فلسطين والجولان، ثم أتت تلك الاتفاقية لتكون بمثابة مكافأة لهم.