إنها الحرب.. صناعة الهستيريا في مصر

في بلد يتغذّى على الهستيريا، ذهبت استغاثة حفيد رفاعة الطهطاوي، أحد صنّاع التنوير والعقلانية في مصر الحديثة، أدراج الرياح، إذ ابتلع المناخ المعبّأ بالجنون صيحة السفير محمد رفاعة رئيس ديوان رئاسة الجمهورية الأسبق المحبوس في ظلمات الزنزانة منذ 12 عاماً، والتي يقول فيها: “أنا السفير محمد رفاعة الطهطاوي، المحبوس في قطاع 2 بسجن بدر 3، والمضرب عن الطعام منذ أكثر من 45 يومًا مع 58 من زملائي، احتجاجاً على ما نتعرّض له من انتهاكات وتجاوزات جسيمة وحرمان من حقوقنا الطبيعية.

بعد أن نفت وزارة الداخلية وجود إضراب عن الطعام أو محاولات انتحار بين المحبوسين في القطاع، في حين أنّ عدد محاولات الانتحار تجاوز 16 حالة، ومنهم من حاول الانتحار داخل قاعة المحكمة أمام القاضي، كما أنّ كل أفراد القطاع الـ58 مستمرّون في الإضراب عن الطعام منذ 45 يوماً، وبعضهم تمّ نقله إلى العناية المركّزة بعد تدهور وضعه الصحي.

وحتى يقف الرأي العام المحلي والدولي على حقيقة ما يحدُث، أطالب بتشكيل لجنة تقصّي حقائق دولية لزيارة قطاع 2 بسجن بدر 3، ترفع تقريرها إلى المفوضية السامية ومجلس حقوق الإنسان في جنيف، وهذا ليس انتقاصاً من سيادة مصر أو استقواءً بهيئة أجنبية، لأن الأمم المتحدة منظّمة دولية تمثّل الإرادة المشتركة لكلّ الدول الأعضاء فيها، ومصر عضو مؤسّس.

وعندما نطالب بالتحقيق في التزام النظام المصري بأحكام معاهدات حقوق الإنسان، فإننا بالتأكيد نطالب الحكومة باحترام الدستور والقانون. وإنني أتوجّه، برجاء خاص إلى الدكتور محمد البرادعي، بحكم وزنه السياسي ومكانته وما هو معروف عنه من نزاهة أصيلة، بأن يتفضّل برئاسة اللجنة المقترحة، وأن يشملها بدعمه ورعايته، كما أرجو أن تضم اللجنة في عضويتها السفير شكري فؤاد وجورج إسحق.

كما أتوجّه برجاء إلى الرجل الشريف عون االخصاونة، رئيس وزراء الأردن الأسبق، والقاضي بمحكمة العدل الدولية بلاهاي، ورئيس مؤتمر فيينا للمعاهدات الدولية، أن يتفضّل برئاسة اللجنة ودعم مطلبنا في تشكيلها، إذا حالت الظروف بين الدكتور البرادعي ورئاسة اللجنة، فما أعلمه عنه أنه من قومٍ لا يردّون رجاءً، ولو كلفهم ذلك جهداً ومشقة عظيمة”.

توقّف كثيرون بالأسى والحزن عند الأسماء المقترحة للجنة، إذ لم يصل إلى علم السجين النبيل أنّ كلًا من شكري فؤاد وجورج إسحق رحلا عن الدنيا منذ سنوات، كما رحل محمد البرادعي عن مصر وغادر عون الخصاونة منصبه منذ العام 2012، مع حفظ الألقاب لهم جميعاً، لنكون أمام طرفٍ من حكاية وطن خيّم عليه الظلم والظلام، لكنه يطنطن طوال الوقت بأنّه جنّة الحريات وحقوق الإنسان والعدالة.

كان المتصوّر أنّ رسالة حفيد الطهطاوي المغيّب عن العالم الخارجي تماماً منذ 12 عاماً سوف تحرّك ساكنًا عند البرادعي الذي ألقت به أمواج الاستبداد على الضفة الأخرى من العالم منذ عشر سنوات، أو تستثير فيه غضباً أو فعل استجابة من أيّ نوع لاستغاثة زميل له في سلك الدبلوماسية المصرية، فيُطلق نداءً إلى ضمير العالم، أو يتبنّى محاولة لإنقاذ حياة عشرات من السياسيين الذين شاركوه حلم التغيير، غير أنّ شيئاً من هذا لم يقع.

كان من المتصوّر، كذلك، أن يستشعر النظام بعض الحرج وبعض الخجل، فيردّ أو يشرح أو يوضّح، غير أنه، كالعادة، كان سميك الجلد متين الجدران العازلة، بما لم يجعله يهتز أو يهتم، إذ كان مشغولاً بالجهاد تحت رايات أبطاله المغاوير المُدجّجين بالأسلحة البيضاء للذود عن سفاراته في العواصم الأوروبية ضدّ جيوش “الإخوان” التي تحاصرها وتهاجمها بالصواريخ العابرة للقارّات والمحمّلة برؤوس نووية، والمدعومة من أساطيل بريطانيا وأميركا وإسرائيل ضمن تحالف دولي شرير يستهدف إسقاط مصر.

تختلف هذه الموجة من الهستيريا التي يرفل فيها الوطن هذه المرّة عن سابقاتها، إذ لم يصنعها النظام ويصدّرها إلى جمهوره، كما كان يحدُث من قبل، بل صنعتها مجموعاتٌ من فرسان الوطنية الملوّثة بالجهل والقبح، وصدّرتها إلى السلطة فتبنّتها واحتضنتها باعتبارها مشروعاً نضاليّاً، وسارت خلف صانعيها من أشخاصٍ هم بمقتضى قوانين الدول الموجودين فيها خارجون عن القانون ومتهمون جنائيّاً.

كان مثيراً للسخرية والحزن أنّ الدولة المصرية اعتبرت المحبوسين بتهمة الشروع في ارتكاب أفعال إجرامية بالسلاح الأبيض رموزها الوطنية وأبطالها القوميين، لتنتفي الفوارق في لحظةٍ بين صراخ أحدهم لحظة القبض عليه وخطاب الرجل الأوّل في الخارجية المصرية، التي أعلنت أنها في حالة حربٍ مع متظاهر واحد يهتف ضدّ النظام أمام السفارة المصرية، واستنفرت كلّ قواها الإعلامية والسياسية وجيوشها الإلكترونية.

قبل عشر سنوات، كان هذا النظام يشبه مطرباً بائساً يردّد أغنية وحيدة، بالإكراه، ومع سبق الإصرار والترصّد، على جمهور أكثر بؤساً، لا يملك حقّ الاعتراض، أو المطالبة بالتجديد في الكلمات واللحن والأداء، فالمطرب الذي يعتمد على عضلاته أكثر مما يستخدم صوته يرى في نفسه فنّاناً، وفي الجمهور قطيعًا من الرعاع، ينبغي أن يصفقوا لكلّ هذا السخام المتدفّق من حنجرة أتى عليها الصدأ.

الآن تجاوزنا هذه الحالة وصرنا وكأنّنا أمام وطن وقع على رأسه فاختلت مراكز الإدراك والتفكير فيها، وصار يتخبّط في سيره وفي كلامه، وهو يظنّ أنه ينثر على الناس زهوراً من الحكمة والجدارة.