“ضخامة نيويورك الهائلة جعلتني ذرة تافهة” اعترف مرة إدوارد سعيد. أما بطلة رواية “إعصار عذب” للروائية السورية شادية الأتاسي فتشكو من أن “إيقاع المدينة البطيء يقتلني”. وتستغرب بكاء الناس في لوزان وسط الأمان والرفاهية، وهي القادمة من دمشق تحت النار. فيصبح الموت والدفن في المنفى معضلة.
ويتجلى الاغتراب في الرواية عبر لجوء بعض السوريين إلى رفض المجتمع الجديد ونعته بالفاجر، وتحذير الآخرين من الاندماج فيه. وفي تفسير عميق، للاغتراب يرى ميخائيل نعيمة أنه تيه الإنسان عن ذاته وعن عالمه الروحي، إذ يقول: “لا غربة إلا غربة الإنسان عن ربه ونفسه”. أما ماركس فقد رآه ظاهرة تاريخية ذات أصول اجتماعية واقتصادية تنتجها الرأسمالية ومجتمعها الاستهلاكي حيث يتم تشييء الإنسان.
في المقابل، عاش الإنسان المعاصر الاغتراب وهو في مكانه، مع اتجاه الحضارة إلى العولمة وتفتيت الهويات المحلية. بينما تتضاعف مشكلة إنسان العالم الثالث، مع اضطراره أحياناً للهجرة هرباً من الموت في بلدان تأكلها الحروب الأهلية والنزاعات الإقليمية، حاملاً ذاكرة الألم ومخاطر طريق اللجوء. ومع تغيير المكان والجغرافيا، ينشأ إحساس فقدان الجذور والاغتراب الثقافي وغربة اللغة التي تقف عائقاً أمام التواصل والاندماج.
في رواية “صيف سويسري” للروائية العراقية إنعام كجه جي، فيأخذ حاتم الحاتمي، أحد شخصيات العمل، وضعية الجنين قائلاً: “ما عادت آدميتي تستقيم إلا في الرقاد”. إنها رغبة لاشعورية في العودة إلى الرحم الأولى حيث الأمان هرباً من حالة الصراع إلى القوقعة الذاتية. وتطرح الرواية تجربة أجرتها شركة أدوية في بازل لتفكيك ما تسميه “الإدمان العقائدي” عبر أدوية تُعطى لعراقيين، فتحوّلهم إلى فئران تجارب في مدينة بازل، التي تُعد عاصمة الدواء عالمياً.
قد يمنح الاغتراب الإنسان قدرة على بناء هوية مركبة جديدة
والعينة التي اختارتها متناقضة الانتماءات والعقائد: فهناك الجلاد حاتم، ضابط المخابرات في نظام صدام البعثي، مع الضحية بشيرة، الشيوعية التي عُذبت واغتُصبت على يد المخابرات. وعلى المقلب الآخر هناك غزوان المتدين الشيعي المتمسك بأعراف الطائفة وتقاليدها، ودلاله الآشورية الداعية المبشّرة لشهود يهوه. أما الدكتور بلاسم، الذي اختير لإدارة الجلسات لِيُبلسم النفوس ويخرجها من كهوفها إلى النور، فيرى أنهم ليسوا إرهابيين، لكنهم “مدمنو أوهام” تدفعهم إلى عدم الاندماج.
يتمنى غزوان البابلي أن ينجح العلماء في تغيير شريط الذاكرة لينسى الخوف الذي في داخله. فهذا الخوف والتمزق، مع تفاقم الحالة الشعورية في التذكر وإعادة إنتاج الألم، قد يسبّب للشخص انهياراً تاماً. ولعل هذا ما جعل غزوان البابلي يتأثر سريعاً بالدواء، وحينها ينتبه الآخرون ويرمون “البونبونات” العلاجية بحيلهم الخاصة.
تابعت إنعام كجه جي في روايتها، وخلال تلك الجلسات، نقلنا إلى العوالم الداخلية للشخصيات لإبراز معاناتها في بلدها الأم واضطرارها للجوء، ثم في بلادها الجديدة حيث تغرق في اغترابها وتصبح ضحية شركات الأدوية. وبعد سقوط نظام صدام على يد الأميركيين، يغرق حاتم وزوجته في دائرة الاكتئاب من جديد بعد فشل الحلم. وها هو حاتم، في نهاية الرواية، يعود إلى الانكفاء لأنه مصاب بالتوحّد كأنه قدره، أما البقية فيعودون إلى العراق.
وقد يمنح الاغتراب، كما قال إدوارد سعيد، الإنسان قدرة على بناء هوية مركبة جديدة والنظر من الخارج بموضوعية. وهذا ما نلمسه مع سندس ابنة بشيرة، التي تتزوج دانماركياً وتنجح في عملها، ثم حين تعود إلى العراق ترى أن غسل الأدمغة لم يعد بحاجة إلى أدوية؛ فالهواتف الذكية تؤدي الدور يومياً، بينما تواصل دول الشرق إعادة إنتاج أزماتها وصناعة مستهلكين جدد للأدوية. فيما يبقى تحت سطوة العنصرية، فيدفعهم القلق الوجودي إلى الانكفاء على الذات حفاظاً على كينونتهم. وهكذا تصبح الغربة تجربة وجودية عميقة تتنازعهم بين الحنين والصدمة والتهميش.