كشفت صحيفة التايمز البريطانية الأسبوع الماضي أنّ ستة من كل عشرة أثرياء في بريطانيا يعتقدون أنّ حياتهم ستكون أفضل خارج البلاد، محذّرة من أن الضرائب الجديدة قد تدفع بموجة رحيل المليونيرات إلى الأعلى. غير أنّ عددا من الخبراء والمؤسسات المالية في العاصمة لندن يعتبر أن هنالك تضخيما للأرقام، فيما يشير البعض إلى أن أثر هؤلاء الأثرياء في الاقتصاد المحلي يظل محدودًا، إذ يتركّز حضورهم أكثر في رفع أسعار العقارات الفاخرة لا في تعزيز الإنتاجية والقطاع الصناعي. وفي المقابل، تظلّ لندن بالنسبة لرؤوس الأموال الخليجية مركزًا راسخًا.
في السياق، يؤكد البروفيسور مايكل كيتسون، أستاذ الاقتصاد في جامعة كامبريدج، في حديث خاص مع “العربي الجديد”، أنّ مكانة لندن مركزا ماليا عالميا لا تُبنى على خيارات سكنية يتخذها عدد محدود من أصحاب الدخول المرتفعة، بل على ركائز مؤسسية واقتصادية عميقة، مثل قوة النظام القضائي في إنفاذ العقود وتوافر الكفاءات والجامعات المرموقة، إضافة إلى موقعها الجغرافي وشبكاتها الدولية.
ويرى كيتسون أنّ “التنافس على استبقاء المليونيرات لا يعود بفوائد محلية كبيرة، إذ إنّ معظم دخولهم تُولّد في الخارج وجزءا كبيرا من محافظهم يُستثمر خارجيًا، فيما يظهر أثرهم الأوضح داخليًا في رفع أسعار العقارات الفاخرة أكثر من تعزيز الإنتاجية“. وبحسب كيتسون، فإنّ أي تغييرات ضريبية قد تؤدي إلى بعض “الحركة على الهامش”، غير أنّها لن تُقوّض الأسس الجوهرية التي تقوم عليها لندن، مثل التمويل بالجملة والخدمات القانونية والمهنية وقطاع التكنولوجيا المالية الناشئ.
ويشير إلى أنّ مراكز مالية أخرى قد تستفيد جزئيًا من خروج بعض المليونيرات، إلا أنّ لندن ستظل محتفظة بمزايا هيكلية يصعب تكرارها، كالقوة في إنفاذ العقود ومرونتها في اجتذاب المواهب العالمية، إلى جانب شبكاتها المهنية الكثيفة وموقعها الفريد. ويشدّد أستاذ الاقتصاد، على أنّ ما يحسم تنافسية لندن مستقبلًا هو وجود سياسات ضريبية وتنظيمية مستقرة وقابلة للتنبؤ، مدعومة باستثمارات جدية في المهارات والبنية التحتية والابتكار.
والأهم، بحسب قوله، وضع خطة عاجلة لتوسيع المعروض من المساكن بما يحافظ على جاذبية العاصمة مدينةً قابلة للعيش بالنسبة للقوى العاملة التي يعتمد عليها القطاع المالي. ويختم بالتأكيد أنّ المستثمرين الدوليين، ومن بينهم القادمون من الخليج، لا يحددون قراراتهم بناءً على “مشاعر المليونيرات”، بل على ما إذا كانت لندن لا تزال توفر أسواقًا عميقة ويقينًا قانونيًا واستقرارًا في السياسات.
مبالغة في أرقام مغادرة أثرياء بريطانيا
هذا الطرح يضع النقاش حول مستقبل لندن في إطار أوسع من مجرّد “هجرة المليونيرات”، إذ يكشف أنّ التحدي الحقيقي لا يرتبط بخيارات الأفراد، بل بالسياسات العامة التي تعيد رسم جاذبية العاصمة. ومن هنا يبرز السؤال: كيف تتقاطع هذه التغييرات مع موقع لندن التاريخي وجهةً أساسية للاستثمارات العربية والخليجية؟
في تشرين الأول/تشرين الأول 2024، أعلنت وزيرة الخزانة البريطانية راشيل ريفز عن نهاية النظام الضريبي الخاص بـ”نون-دوم” كجزء من التحوّل إلى نظام ضريبي قائم على الإقامة، تم التشريع له في البرلمان مطلع آذار/آذار 2025، ليُطبق رسميًا اعتبارًا من 6 إبريل/نيسان 2025. هذا النظام، الذي مثّل لعقود طويلة عامل جذب رئيسيًا للأثرياء الأجانب، طوى رسميًا أكثر من قرن من الامتيازات الاستثنائية.
وترافق القرار مع طرح مقترحات لفرض ضريبة مباشرة على الثروة، في خطوة قالت الحكومة إنها تهدف إلى سد العجز وتمويل الإنفاق العام، غير أنّها في المقابل أثارت مخاوف متنامية بشأن مستقبل لندن ملاذا ماليا عالميا. رغم هذه التحولات، تظلّ لندن بالنسبة للعرب والخليجيين مركزًا محوريًا.
وبحسب ما ورد في تقرير نشر على موقع شركة “بلاك بريك” العقارية في حزيران/حزيران 2023، فإنّ الاستثمارات الشرق أوسطية لعبت دورًا أساسياً في سوق العقار اللندني. وأشار تقرير آخر لشركة “سلكت بروبرتي” في إبريل/نيسان 2024 إلى أنّ الاستثمارات الخليجية في العقارات البريطانية بلغت 3.2 مليارات دولار خلال ذلك العام، أي ما يعادل نحو ثلث مبيعات العقارات الفاخرة. كما ذكرت تقارير صحفية أنّ مستثمري قطر امتلكوا عام 2006 ما يقارب ربع حي مايفير بقيمة مليار جنيه إسترليني، ما منح المنطقة لقب “ليتل دوحة”.
وبينما تحذر دراسات بريطانية، مثل تلك المنشورة في صحيفة التايمز من أن خطة فرض “ضريبة على الثروة” قد تدفع شريحة من الأثرياء المحليين إلى الهجرة، يورد تقرير لصحيفة الغارديان نقلاً عن بيانات هيئة الضرائب والجمارك البريطانية، أن أعداد المغادرين من أصحاب الثروات تسير بوتيرة متوقعة، بل أدنى من تقديرات مكتب مراقبة الميزانية.
وأكد التقرير أنّ بعض المخاوف من نزوح واسع النطاق قد يكون مبالغًا فيها، وأنّ المصطلح الأقرب للواقع هو “تحرّك محدود” لا “خروج جماعي”. يعزّز هذا الطرح ما جاء في دراسة نشرتها شبكة العدالة الضريبية التي شددت على أنّ نسبة المليونيرات الذين غادروا بريطانيا خلال 2025 لم تتجاوز 1% من إجمالي عددهم، مؤكدة أنّ توصيف “هجرة” الذي تداوله الإعلام يفتقر إلى الدقة.
في المقابل، أكّدت شركة هينلي أند بارتنرز المتخصصة في برامج الهجرة الاستثمارية، في تقريرها الصادر في 24 حزيران/حزيران 2025 بعنوان تقرير هينلي لهجرة الثروات الخاصة 2025، أنّ بريطانيا ستسجّل خلال العام الجاري مغادرة صافية لنحو 16,500 مليونير، أي ما يعادل خروج ثروة تقارب 92 مليار دولار. ورغم انتشار هذه الأرقام على نطاق واسع في وسائل الإعلام البريطانية، إلا أنّها وُوجهت بانتقادات وتشكيك من خبراء، لا سيما في ظل غياب الشفافية الكاملة حول منهجية جمع البيانات التي اعتمدها التقرير.
وفي المقابل، برزت مؤشرات على صلابة موقع لندن المالي؛ إذ أوضحت مؤسسة ذا سيتي أوف لندن، وهي هيئة تمثل المصالح المالية والمهنية في العاصمة البريطانية في تقرير صدر في تموز/تموز 2025 أنّ لندن لا تزال تحتفظ بمركزها الأول كأهم مركز مالي في أوروبا. كما أظهر مسح أجرته شركة إرنست آند يونغ العالمية للاستشارات والخدمات المالية أنّ المملكة المتحدة حلت ثانية على مستوى أوروبا في عدد المشاريع الاستثمارية، فيما احتفظت لندن بالمركز الأول بين المدن الأوروبية في نيات الاستثمار.