في محكمة الأسرة

في طوابير محكمة الأسرة، تقفُ فتياتٌ في أعمار جميلة، إلى جانب نساء ورجال في أواخر العمر والجهد والصّحة. الطّلاق لا دين له ولا عُمر ولا طبقة، ففي ردهة المحكمة يتساوى الناس؛ لا فرق بين من تبدو عليهم آثار النِّعمة، ومن تفضح هيئاتهم ما أوقعته الحياة عليهم من شقاء.

تجد أحياناً تناقضاتٍ أخرى تُظهر الخلل العميق في هذه المعادلة، مثل شابّة متزوجة بشيخ تتخلّى عنه الأيام في عدٍّ عكسيٍّ سريع، رغم محاولته استغلال ما تيسّر من شباب الفتيات اللاتي يُسقن إلى زيجات مثل هذه. لا تجد الأطفال في القاعة، فهم الخاسرون المنفيون في الكواليس، وهم الأكثرُ مأساوية في المشهد، على غيابهم المادّي عنه. إذا لم نحسب بينهم الطفلات ذوات العشرين، وربما أقلّ، وقد صرن نساء قبل الوقت، وجئن لإنهاء زواج مبكر.

الجيل الحالي أقلّ استعداداً لتحمّل مسؤولية أسرة، بينما كانت العشرون سابقاً عمراً شبه معقول للنضج المبكر، الذي كانت الحياة تفرضه على النساء، فكن يتحمّلن المسؤولية وهن طفلات، في ظل كثرة الأطفال وانشغال الأمهات بـ”تكثير سواد الأمة”. فتُربّي البنات الأكبر الإخوة الأصغر ويحملن الهمّ منذ الطفولة الأولى. وهذا بمقاييس عصرنا اغتصابٌ للطفولة التي يجب أن تمرّ بمراحل النمو الطبيعية، من اللعب إلى التعلّم ثم المسؤولية بعد التخرّج والعمل.

ليست الحياة للمرأة المعاصرة أسهل، والرجل رابح دوماً، فالرجل الشرقي غالباً ما يتخلّى عن تربية الأولاد وأعمال البيت للمرأة، رغم أنهما يعملان معاً، لأنه يفضّل الراحة بعد يوم عمل طويل، فتضطرّ المرأة إلى تحمل المسؤولية مُكرهة. وفتيات اليوم على عكس الماضي، غير مجهزات ولا راغبات في هذه المسؤولية، فالمرأة لا تتزوّج رجلا فقط، بل لائحة من القواعد الاجتماعية.

كيف تقوم الأسر على تضحيات المرأة؟ من سنّ هذا القانون؟ يدخل المرأة والرجل في علاقةٍ جنسية، ثم تحمل المرأة وتُرضع الوليد من جسدها، لأن الطبيعة اختارت هذا الدور مسبقاً للمرأة. لكن، ألا يعني هذا أنها اختارت للرجل أيضاً أن يرعى ويربّي بشكل حقيقي؟ فأي اجتماع إنساني يقضي تقاسم المهمّات، وينفرط بتقصير طرفٍ أو أطراف.

تتحمّل الأُسر الأكبر سناً الكثير من المسؤولية في الاستخفاف بالزّواج، ودفعِ أبنائهم إليه على أُسسٍ لم تعد قائمة، فالزّواج كان يعني حصنا أخلاقيا للرجل، وشبكة أمانٍ للمرأة، على الزوجين تحمّله، ولو تبيّن عدم ملاءمة بعضهما لبعض. لكن النّساء لسن شهيدات الواجب دوما، فأمّهاتٌ كثيرات غير سعيدات في الحياة الزوجية يهملن تربية الأطفال، ردّاً على تخلي الآباء عنها.

من أسباب فشل الزواج أنّ نسبة من الرجال تعيش خارج البيت، ذهنيا، وهم عازبون. فهم لا يساهمون إلّا قليلاً في المسؤوليات مع أهاليهم، ولا ينخرطون في مشاكل العائلة وتفاعلاتها، ولا يتعلّمون إدارة الحياة ضمن “فريق”، فالزواج عمل جماعي يحتاج أشخاصاً لهم حس العمل مع فريق، وتحمل مسؤوليته.

الحديث المبالغ فيه عن ارتفاع نسب الطلاق يتجاهل أن الخطأ في المعادلة يتمثل في الزّواج غير الملائم. وعلى الخائفين منه أن يلوموا ارتفاع نسب الاستقلالية المالية للنّساء، بحيث لم يعد عليهن أن يتحمّلن زواجاً غير ملائم بسبب عدم قدرتهن على إعالة أنفسهن وأطفالهن، وعليهم أن يمنعوا ذلك، فبسببه لم يعد الطلاق خياراً للرجال فقط.

والذين يحذّرون من تأخّر معدّل الزواج على مستويات الهرم السكاني. لأننا في وقتنا هذا، في قمّة هذا الهرم، ومهدّدون بالانحدار فيه قريباً، عليهم إدراك طبيعة هذا الهرم الذي نحن فيه؟ فنتيجة تخلّي الآباء والأمّهات عن واجبات التربية، وضُعف الموارد، يخرج شباب الأحياء الفقيرة التي تكاثرت بفعل الهجرات القروية إلى الشوارع مبكّراً، وجل ما يقدّمونه للمجتمع هو جيل من الجانحين ومدمني المخدرات. وفي أحسن الأحوال، بائعي بسطاتٍ على الأرصفة. لا بديل لهؤلاء، الذين لم يبذل المجتمع ولا الدولة جهداً في تحويلهم إلى مواطنين صالحين لأنفسهم ولا لغيرهم. مع ازدياد نِسب الفقر، وربط الزّواج بالإنجاب، وتمديد عمر الزواج رغم عدم صلاحيّته لكلا الطرفين، ما يؤدي إلى إنجاب مزيد من الأعباء على المجتمع.

الدلالات : الزواج الطلاق