تشهد أوكرانيا تحولاً جذرياً في طبيعة قتالها ضد الغزو الروسي لها، متصلاً خصوصاً بالأخلاقيات العسكرية، المغلّفة بالاعتماد المتزايد على التكنولوجيا. ومن شأن هذا التطور أن يطرح إشكاليات في مستقبل الحروب، ومدى استسهال استهداف الناس، عسكريين ومدنيين، في سياق الدفاع عن قضية ما، فضلاً عن القدرة على حصر الأخطاء. في مقابلة مع وكالة رويترز، نُشرت أول من أمس الأربعاء، أوضح وزير الرقمنة ونائب رئيس الوزراء الأوكراني، ميخايلو فيدوروف، أن وزارته تُشغّل نظام نقاط على غرار ألعاب الفيديو لعمليات القتل المؤكدة أو تدمير المركبات والمعدات الروسية. ويمكن بعد ذلك استبدال هذه النقاط بطائرات مسيرة وأجهزة تشويش إلكترونية للإشارات وأنظمة أسلحة أخرى على سوق مثل موقع أمازون، بينما تُصنف الوحدات على قوائم المتصدرين الشهرية. وقال فيدوروف إنه منذ إطلاق هذا النظام قبل عام، تم توزيع نحو 500 ألف طائرة مسيّرة على الوحدات مقابل النقاط، معتبراً أن هذا الأمر يُحفز الوحدات على قتل المزيد، وتبادل البيانات التي تُتخذ بناءً عليها قرارات لاحقة بشأن ما هو فعّال وما هو غير فعّال. ومع إعلان القوات الأوكرانية عن “منطقة قتل” (كل من يتحرك فيها يواجه الموت) على جانبي الجبهة مع القوات الروسية، حيث يُصبح التنقل في العراء شبه مستحيل بسبب التهديد المستمر للطائرات المسيرة، قدّر فيدوروف أن هذه المنطقة تمتد الآن على مساحة بين عشرة و15 كيلومتراً على خط المواجهة، متوقعاً وصولها إلى 20 كيلومتراً في العام المقبل.
ميخايلو فيدوروف: العمل جارٍ على أنظمة تجعل الطائرات من دون طيار ذاتية التحكم تماماً
التطور التقني في أوكرانيا
ووصف فيدوروف العمل في مثل هذه البيئة بأنه “عمل شاق”، ونتيجةً لذلك تستخدم أوكرانيا الآن آلافاً من المركبات البرية غير المأهولة في ساحة المعركة، لجلب الذخيرة والإمدادات للجنود المتمركزين في مخابئهم على خط المواجهة. وأضاف فيدوروف أن ما بين 80% و90% من الأهداف الروسية التي تُضرب في ساحة المعركة تُدمر الآن بطائرات من دون طيار، بينما كان المعدل في عام 2024 70% من القوات المستهدفة و75% من المركبات. ويشغل فيدوروف (34 عاماً) منصب الوزير المسؤول عن جهود التحول الرقمي في أوكرانيا منذ خمس سنوات، ما دفعه إلى الانخراط على نحو كبير في بحث أوكرانيا عن تقنيات دفاعية مبتكرة للتغلب على عدوها الأكثر ثراءً والأفضل تسليحاً.
وبموازاة خوض الحرب، سعت أوكرانيا إلى ترسيخ مكانتها ساحةَ اختبار لشركات الدفاع الدولية، داعيةً إياها لتجربة أسلحة جديدة في مواقع القتال، وقال فيدوروف إنه تم تلقي ما يقرب من ألف طلب حتى الآن، وأن 50 منتجاً مختلفاً “في طريقها إلى أوكرانيا”. وأضاف أن أوكرانيا تستخدم الآن الذكاء الاصطناعي لمساعدة طائراتها المسيّرة، بما في ذلك العديد من أنظمتها المستخدمة في هجمات بعيدة المدى في عمق روسيا، وأكد أن أجهزة الكمبيوتر قادرة على مسح صور استطلاع جوية وفضائية مفصلة لأهداف قد يستغرق العثور عليها من قِبل الإنسان “عشرات الساعات”. وأضاف فيدوروف أن العمل جارٍ على أنظمة تجعل الطائرات من دون طيار ذاتية التحكم تماماً، ما يسمح لها بالتحليق من دون تدخل بشري، والعمل في أسراب. وأوضح أن أوكرانيا تستخدم تقنية الذكاء الاصطناعي من شركة تحليل البيانات الأميركية بالانتير لأغراض متنوعة، مثل تحليل أنماط الضربات الروسية على أوكرانيا أو تتبع حملات التشويه الإعلامي التي تشنها موسكو. وتأسست شركة بالانتير على يد الملياردير الأميركي بيتر ثيل، وهو شخصية مؤثرة في إدارة ترامب. وليست جميع استخدامات أوكرانيا لـ”بالانتير” عسكرية، فقد قال الوزير الأوكراني إنها ساعدت أيضاً في اقتراح أماكن بناء مدارس تحت الأرض مقاومة للقنابل، أو تحديد المناطق التي يجب إعطاؤها الأولوية في جهود إزالة الألغام.
وأوضح فيدوروف في سياق آخر، أن أوكرانيا جمعت ما وصفه بـ”الكم الهائل من المعلومات”، وأنها “تبحث مشاركة بيانات ساحة المعركة مع حلفائها”، لتعزيز مكانتها في مفاوضاتها للحصول على دعم الدول الصديقة. وتُعد مجموعات البيانات الضخمة أمراً بالغ الأهمية لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على التعرف إلى الأنماط والتنبؤ. تزداد هذه الحاجة إلحاحاً في قطاع الدفاع العالمي المزدهر، في حين أن مجموعات البيانات الخاصة بمعظم الأنشطة المدنية متوفرة تجارياً، إلا أن أكبر حرب في القرن الـ21 بين الجيوش المتقدمة قد منحت أوكرانيا مجموعة لا مثيل لها من بيانات عمليات القتال، ما قد يساعد كييف على إثبات قيمتها حليفاً لواشنطن. ومنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في عام 2022 جمعت أوكرانيا كميات هائلة من إحصاءات ساحة المعركة المسجلة بدقة، ومع تزايد استخدام الطائرات المسيرة في الحرب، أصبحت أوكرانيا تمتلك ملايين الساعات من لقطات القتال المصورة جواً. وقال فيدوروف: “أعتقد أن هذه إحدى الأوراق المتاحة، كما يقول زملاؤنا وشركاؤنا، لبناء علاقات مربحة للطرفين”، في إشارة واضحة إلى تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في اجتماع كارثي في المكتب البيضاوي في 28 شباط/ شباط الماضي، بأنه “ليس لديكم أوراق”.
ولم تكن تلك الخطوة الأوكرانية جديدة، فقد استفاضت الصحف الغربية بنشر تحقيقات عن لاعبي الفيديو الأوكرانيين، الذين انتقلوا من خلف الشاشات إلى ساحات الحرب لمحاربة الروس بعد غزو موسكو لبلادهم. وبات أبرز مشغلي المسيرات شباناً اعتادوا قضاء ساعات طويلة خلف شاشات الكمبيوتر، لكنهم الآن تحولوا إلى عناصر في الحرب، لصدّ الزحف الروسي. ومع أن الاختلاف أخلاقي بين القتل في لعبة وبين الواقع، غير أن الاعتياد على الفكرة لن يفضي سوى إلى تدهور الرادع الأخلاقي، وبالتالي تطوير أدوات القتل، سواء بالمسيرات أو بالمركبات الآلية. في السياق، تجدر الإشارة إلى المجزرة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بهجومه المزدوج على مستشفى ناصر في غزة، الاثنين الماضي الذي سقط فيه أكثر من 20 شهيداً على الأقل. وقال مسؤول أمني إسرائيلي لشبكة سي أن أن، إن القوات المشاركة في الهجوم كان مُصرّحاً لها باستهداف كاميرا بطائرة مُسيّرة، لكنها أطلقت قذيفتي دبابة: الأولى على الكاميرا والثانية على قوات الإنقاذ. وادّعى الجيش الإسرائيلي أن “ستة من القتلى كانوا إرهابيين، وأحدهم شارك في التسلل إلى الأراضي الإسرائيلية خلال هجوم حماس في السابع من تشرين الأول/تشرين الأول 2023”.
البحرية الأميركية: ألعاب الفيديو تعزز المرونة العصبية
الاستثمار العسكري الأميركي
في العام الماضي، نشرت الكاتبة الليتوانية ماريام ديد، كتاباً بعنوان “كل شيء في ساحة اللعب: كيف تغير ألعاب الفيديو العالم؟”، تطرقت في أحد فصوله إلى القطاع العسكري في هذه الألعاب، حسبما ذكر موقع “كومونز” الأوكراني، مشيرة إلى أن “الجيش الأميركي استثمر بكثافة في الألعاب، من خلال ألعاب مثل America’s Army الصادرة عام 2002، وهي لعبة إطلاق نار تكتيكية تعرض سيناريوهات قتالية واقعية، كانت بمثابة دعاية للحروب الأميركية وأداة تجنيد فيها. وقد كتب القائمون على اللعبة في صفحة الأسئلة الشائعة الرسمية، أن أحد الأسباب التي تجعل الأشخاص خارج الولايات المتحدة قادرين على لعبها هو أنهم يريدون أن يعرف العالم أجمع مدى عظمة الجيش الأميركي. وكان ذلك في سياق ما بعد هجمات 11 أيلول/أيلول 2001 والحرب على الإرهاب”. ووفق الكاتبة “كان إجمالي عدد إصدارات اللعبة التي صدرت في الفترة من عام 2002 إلى عام 2014 قد بلغ 41 إصداراً”، مشيرة إلى أنه “من المتوقع أن يستثمر الجيش الأميركي أكثر من 26 مليار دولار سنوياً في التدريب على الألعاب والمحاكاة بحلول عام 2028، كما أن واشنطن استحوذت على 92% من الإنفاق العالمي في سوق الألعاب والمحاكاة في مجال الدفاع في عام 2022، أي نحو 25 مليار دولار”.
وفي 17 شباط 2022، نشرت البحرية الأميركية على موقعها مقالاً جاء فيه أن ألعاب الفيديو تساعد البحارة ومشاة البحرية على معالجة المعلومات بشكل أسرع وتعزز المرونة العصبية. والأهم وفقاً للكاتبة الليتوانية، أن هذه الألعاب ومؤثراتها “تجعل اللاعبين غير حساسين للعنف ضد أعداء الدولة المفترضين، في حين تقدم وجهات نظر عسكرية على أنها مبررة أخلاقياً”. أما نظام النقاط، فبحسب ديد، تبنت الشركات والمؤسسات التعليمية ووكالات التسويق في العقد الأخير، ميزات شبيهة بالألعاب، مثل النقاط والشارات ولوحات المتصدرين، لإشراك المستخدمين وتحفيز السلوكيات. وسارت منصات التواصل الاجتماعي على نفس النهج، فدمجت عناصر تشبه الألعاب لزيادة تفاعل المستخدمين. وبناء على ذلك، يُمكن فهم مآلات ما يجري في الحرب الروسية على أوكرانيا، وفي تصريحات فيدوروف الأخيرة.(العربي الجديد، رويترز)