تأخذ الاعتداءات الإسرائيلية على سورية منحى تصاعدياً مع تنفيذ جيش الاحتلال، مساء أول من أمس الأربعاء، إنزالاً جوياً ترافق مع غارات مكثفة في منطقة الكسوة جنوبي دمشق، هو الأول من نوعه منذ إسقاط نظام بشار الأسد، في الثامن من كانون الأول/ كانون الأول الماضي، وذلك على الرغم من عملية التفاوض الجارية ما بين دمشق وتل أبيب. ويشير إنزال الكسوة إلى أن إسرائيل تستخدم كل الطرق العسكرية للضغط والحصول على تنازلات تعزز نفوذها في جنوب سورية.
لم تعلق إسرائيل حتى عصر أمس الخميس، على إنزال الكسوة الذي استمر نحو ساعتين، بينما كان السوريون يتابعون وقائع حفل افتتاح معرض دمشق الدولي، غير بعيد عن منطقة الإنزال، فيما اكتفت وسائل الإعلام العبرية بنقل التفاصيل عن مواقع إخبارية عربية. لكن عقب ورود أنباء عن الإنزال الإسرائيلي، كتب وزير الأمن يسرائيل كاتس، على منصة إكس، أنّ “قواتنا تعمل في ساحات القتال كافة ليلاً ونهاراً من أجل أمن إسرائيل” من دون أن يقدم مزيداً من التفاصيل. وجاءت العملية بعد يوم واحد من هجمات جوية بطائرات مسيّرة استهدفت مواقع للجيش السوري بالقرب من منطقة الإنزال، أدت إلى مقتل ستة عناصر وإصابة آخرين. من جهة أخرى أكد مراسل “العربي الجديد”، بعد ظهر أمس الخميس، أنّ مُسيّرات إسرائيلية حلقت في أجواء العاصمة السورية.
وحول تفاصيل إنزال الكسوة مساء الأربعاء، أوضح “مصدر حكومي” لوكالة “سانا” السورية الرسمية، أمس، أن عناصر من الجيش السوري عثروا الثلاثاء الماضي، قرب جبل المانع في منطقة الكسوة بريف دمشق، على أجهزة مراقبة وتنصت، مشيراً إلى أنه أثناء التعامل معها تعرض الموقع لهجوم إسرائيلي جوي، أسفر عن قتلى وإصابات وتدمير آليات. وأضاف أن الاستهداف الإسرائيلي استمر حتى مساء الأربعاء، لمنع الوصول إلى المنطقة، مؤكداً أن “مجموعات من الجيش دمرت جزءاً من المنظومات عبر استهدافها بالسلاح المناسب، وسحبت جثامين الشهداء”. وبيّن أنه “لاحقاً (مساء الأربعاء)، شنت الطائرات الإسرائيلية عدة غارات على الموقع، أعقبها إنزال جوي لم تُعرف تفاصيله بعد وسط استمرار التحليق المكثف لطيران الاستطلاع”.
ونقلت وسائل إعلام سورية، أمس، عن مصدر عسكري قوله إنّ أربع مروحيات إسرائيلية نفذت إنزالاً جوياً على جنوب شرقي مدينة الكسوة في ريف دمشق، مشيراً إلى أنه “لم يحدث أي اشتباك مع عناصر وزارة الدفاع الموجودين بالقرب من المنطقة”. ولم تهدأ الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية منذ سقوط نظام الأسد، إلا أنها في الآونة الأخيرة أخذت منحى تصاعدياً يوقع خسائر كبيرة في صفوف الجيش السوري، الذي تحول تل أبيب حتى دون انتشاره في المواقع التي كانت تنتشر فيها قوات النظام السابق.
وتعد منطقة الكسوة وجبل المانع الجبل الذي كان يتمركز فيه اللواء 76 (دفاع جوي)، الذي كان يتبع للفرقة الأولى في قوات النظام السابق، من أكثر المناطق السورية التي كانت تستهدفها إسرائيل قبل سقوط النظام، إذ يُعتقد أن الفصائل الإيرانية التي كانت تساند ذاك النظام، كانت تستخدم هذه المواقع وربما تركت معدات عسكرية بعد انسحابها في الثامن من كانون الأول الماضي. ويعد إنزال الكسوة الإنزال الجوي الإسرائيلي الأول من نوعه في سورية منذ سقوط نظام الأسد، وهو الأكثر عمقاً في الأراضي السورية، فالجيش الإسرائيلي كان يكتفي بالتوغل البري في أرياف القنيطرة ودرعا وريف دمشق وبالقصف الجوي لأهداف عسكرية. ولكنه هذه المرة اقترب من تخوم العاصمة، فالمنطقة التي جرت فيها عملية الإنزال لا تبعد سوى 20 كيلومتراً عنها، ما عزز المخاوف لدى السوريين من تمادي الجيش الإسرائيلي الذي يستغل عدم قدرة الجيش السوري على التصدي له، سواء في الجو أو الأرض. في هذا السياق، ذكرت قناة “الإخبارية” السورية، أمس، أن “قوات الاحتلال الإسرائيلي توغلت في قرية رويحينة بريف القنيطرة واعتقلت شابين”.
هدف إنزال الكسوة
وبيّن الباحث في الشؤون العسكرية، رشيد حوراني أن “منطقة الكسوة وجبل المانع منطقة واسعة ومتنوعة التضاريس بين السهل والوديان والهضاب المتوسطة والمرتفعة”، مضيفاً في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “المليشيات الإيرانية كانت قبل الثامن من كانون الأول الماضي تنتشر فيها بكثافة بالتعاون مع وحدات النظام البائد، وخصوصاً الفرقة الرابعة والفرقة السابعة والفرقة الأولى”. وذكر أن الإنزال الجوي “ينفذ عادة للقيام بمهمة دقيقة ومحددة كتدمير سلاح نوعي أو الحصول على وثائق، أو اغتيال وتصفية شخصية مهمة ومؤثرة في صف الطرف الآخر”.
رشيد حوراني: إنزال الكسوة هدفه إرباك الجيش السوري
وفي رأيه فإن الهدف الرئيسي من إنزال الكسوة هو “إرباك الجيش السوري”، مضيفاً أن “هذا الإنزال يندرج في سياق الضغط على الإدارة السورية الجديدة للحصول على تنازلات في عملية التفاوض الجارية حالياً”. ولا شك، وفق حوراني، أن تل أبيب “تراقب عن كثب الدعم العربي والإقليمي والدولي للإدارة الجديدة، لإخراج سورية مما هي فيه، لكنها لا تريد الاستقرار لهذه الحكومة لعدم ثقتها بها”. من جهته وصف المحلل العسكري العميد، عبد الله الأسعد، إنزال الكسوة بـ”المفاجئ”، مضيفاً في حديث لـ”العربي الجديد”، أن الهدف منه “تقني”. وفي رأيه فإنه “ربما وضعت معدات عسكرية لها علاقة بالتنصت والإشارة في الموقع، أو سحبت معدات كانت موجودة بالفعل. كل شيء وارد سيما وأن الإنزال استمر لنحو ساعة ونصف الساعة”. ولا يخرج الإنزال، وفق الأسعد، عن هذا السياق “لأن إسرائيل قادرة على تدمير كل شيء بالموقع بالقصف الجوي”، مشيراً إلى “عناصر وزارة الدفاع الذين قتلوا قبل يوم من الإنزال، والذين عثروا على أجهزة وحاولوا سحبها إلا أن الطيران الإسرائيلي المسيّر قتلهم على الفور”.
واقع يفرضه الاحتلال
اللافت أن إنزال الكسوة جاء في خضم مفاوضات تجري بين سورية وإسرائيل، نقل عن الرئيس السوري أحمد الشرع
، قوله قبل أيام، إنها وصلت إلى مراحل متقدمة. وأضاف، بحسب ما نقل عنه وفد إعلامي عربي التقى به، أن فرص إتمام الاتفاق مع إسرائيل أكبر من فرص فشله، بيد أنه أكد أن أي اتفاق مع إسرائيل سيكون فقط على أساس خط الهدنة لعام 1974. وكانت تل أبيب أطاحت اتفاقية فك الاشتباك الموقعة في ذاك العام، ولا تزال تضغط بكل الطرق العسكرية لإجبار الإدارة السورية على التوقيع على اتفاقية جديدة توسع المنطقة العازلة في جنوب سورية. ومن الواضح أن احتلال إسرائيل للمنطقة العازلة التي تفصل ما بين سورية وهضبة الجولان المحتلة والمحددة في اتفاقية 1974، الهدف منه توسيع هذه المنطقة لتصل إلى التخوم الجنوبية للعاصمة، تكون خالية من أي سلاح ثقيل للجيش السوري.
رضوان زيادة: الإنزال يؤكد أن إسرائيل لا تلتزم بالتعهدات فالاعتداءات مستمرة رغم المفاوضات مع دمشق
كما فرضت إسرائيل، خلال أحداث السويداء وبعدها، نفسها طرفا رئيسا في صياغة الترتيبات الأمنية في المحافظة. وأفادت وكالة الأنباء السورية (سانا) في 19 آب/آب الحالي بأن
وزير الخارجية والمغتربين، أسعد حسن الشيباني، التقى في اليوم نفسه في باريس وفداً إسرائيلياً لمناقشة عدد من الملفات المرتبطة بتعزيز الاستقرار في المنطقة والجنوب السوري، في أول اعتراف رسمي سوري بمفاوضات على المستوى السياسي بعد تسريبات عدة. وبحسب ما ذكرت “سانا” يومها “تركزت النقاشات حول خفض التصعيد وعدم التدخل بالشأن السوري الداخلي، والتوصل لتفاهمات تدعم الاستقرار في المنطقة، ومراقبة وقف إطلاق النار في محافظة السويداء، وإعادة تفعيل اتفاق 1974”.
وتعليقاً على إنزال الكسوة وعلاقته بالعملية التفاوضية، رأى الباحث السياسي رضوان زيادة، في حديث مع “العربي الجديد”، أن العملية تعد “استهتاراً كاملاً بالسيادة السورية وتطبيقاً لمبدأ القوة كما يردد (بنيامين) نتنياهو مراراً”. وأضاف أنها “تأكيد على أن إسرائيل لا تلتزم بالتعهدات فالاعتداءات مستمرة رغم المفاوضات مع دمشق”، لافتاً أن “هذا الاعتداء يطرح سؤالاً حول جدوى المفاوضات إذا لم تحترمها إسرائيل” وفي رأيه “الهدف من المفاوضات تفادي الشر الإسرائيلي، لكن في ما يبدو لن تقود إلى ردع إسرائيل بأي شكل”.