لا تخرج الضفة الغربية المحتلة عن دائرة الحرب الإبادية في قطاع غزّة، وإن بوتيرة وشكل مختلف، وهذا التعامل الاحتلالي مع مدن الضفة الكبرى، كالذي شهدته رام الله، ثم نابلس، يهدف إلى توحيد الحالة، ما أمكن، بالرغم من الفارق الكبير بين القطاع والضفة، في طبيعة المقاومة ووسائلها، إلا أن سياسة الاحتلال تقوم في الأخيرة على الملاحقة اليومية التي تغلب عليها التدابير الاستباقية والاحترازية، إلى جانب تأكيد وقوع مهد السلطة الفلسطينية، والدولة الفلسطينية، تحت الاحتلال المباشر، لفرْض سيادته عليها، وللتهوين من أمر السلطة، وتهميشها. ما يحيلنا إلى الفلسطينيين، الطرف المقابل؛ كيف ينظرون إلى هذه المرحلة من الصراع، وما أولوياتهم؟
ليس واقعيّاً أنْ نتوقَّع تشابُهاً تامّاً بين الحالة الفلسطينية في الضفة الغربية وقسيمتها في قطاع غزة، فلكلٍّ منهما ظرفُه، ولكل ظرف مقتضياتُه. ولكن لنا أنْ ننتظر تجانُساً عامّاً بينهما؛ بحكم التكوين الواحد، والمصير المشترك. … ولا يقتصر الاختلاف بينهما على طبيعة الجهة الحاكمة، بل يتعدَّاه إلى طروء تغيُّرات على شواغل التفكير والعمل، هذا الشاغل المعيشي طبيعي، لكن ما يثير التفكير حين يتمدَّد نطاقُه، ليزاحم، أو يكاد يصادر الاهتمام الوطني العام. على أنَّ هذا الاتجاه المعيشي لا يمثِّل أهل الضفة الغربية، ولا ينحصر فيها، فما هو إلا امتداد للاتجاه المادي الاستهلاكي، العالمي، وكما يتأثَّر به فلسطينيون في الضفة الغربية يتأثَّر به فلسطينيون في قطاع غزّة.
هذا ولا تقتصر هذه الحالة الانقسامية على الشعب الفلسطيني، إذ هي ملحوظة في شعوب دول أخرى، ومنها دول قوية، ماديّاً، كالولايات المتحدة؛ بين تيَّار يميني قومي وتيَّار ديمقراطي ليبرالي، وكذلك في دولة الاحتلال نفسها، بين تيَّار يميني ديني، متطرِّف، وتيَّار علماني ديمقراطي، لكن فاعلية الدولة باعتبارها جهازاً تنفيذياً، أو الحكومة، لا تسمح لتلك الانقسامات الاجتماعية الفكرية بتعطيل فاعلية الكيان العام، وإن كانت تهدِّد بانقسامات سياسية، أو تصدُّعات وربما اقتتال داخلي محتمَل، ومما يدلُّ على قوة الانقسام في دولة الاحتلال أنَّ الحرب الدائرة، والناجمة عن شعور عام بالمهانة، والانتقاص من قوة الدولة وجيشها، وحصانة أمنها، ذلك كله لم يقوَ على تأجيل تلك الخلافات، فشهدنا تجاذبات سياسية واجتماعية مرتدّة إلى الخلافات التي سبقت عملية طوفان الأقصى، على طبيعة الدولة، ومرجعيتها، في شؤون القضاء والتشريع، وانعكس أيضاً في كيفية التعامل مع المحتجزين الإسرائيليين لدى حركة حماس وحركات المقاومة في غزة.
حالتنا الفلسطينية المشيرة إلى اختلافات ليست حصيلة وعيٍ اجتماعي بالضرورة، إلا لدى فئات محدودة، لكن مقتضيات الواقع تدفع إليها، أو تستدرج الناس نحوها
على أنّ حالتنا الفلسطينية المشيرة إلى اختلافات ليست حصيلة وعيٍ اجتماعي بالضرورة، إلا لدى فئات محدودة، لكن مقتضيات الواقع تدفع إليها، أو تستدرج الناس نحوها، وهي في حدِّها الأقصى قد تتماهى مع مفهوم “السلام الاقتصادي”.
ومن مؤشِّرات هذه الحالة أنَّ الشعب في الضفة الغربية لم يتحرَّك التحرُّكَ المنتظَر إزاء ما يجري في غزّة. ومع أن وراء هذه الحالة أسباباً من قَبيل سياسة السلطة الفلسطينية التي أضعفت الأبنية التنظيمية لصالح سلطة السلطة، والملاحقات الاحتلالية المكثَّفة لكل رموز العمل الوطني، وحتى الأفراد الناشطين، إلا أننا لا نعدَم في صميم قطاعات من الناس، وليس بالضرورة الأكثر، تراجُع الاهتمام بالقضايا العامة، والشأن الوطني، والمصير المشترك.
هذا، وليست وحدة الشعب أمراً متعالياً، أو معصوماً من التغيرات الاجتماعية، وتكاد الخلافات العميقة، حين تدبّ في أيِّ شعب أنْ تُحيله، وهو الواحد، شعوباً، لكل منها دربٌ وغاية. ويكون ذلك إما بالسماح بحدوثه، وذلك بالكفِّ عن صيانة عوامل وَحْدته، وتغذيتها، أو بالدفع إليه، بسياسات اقتصادية وثقافية، تكرّس عزلة أوساط منه عن سائر الشعب. ومؤشِّر الخطورة في حالة الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية أنه حتى في وقت التهديد الوجودي لا تزال هذه الفرقة، في معنى الحياة، ماضيةً في طريقها. مع أن روح الشعب، وجوهره، يصعب أنْ يستأصَلا، لكن هذا يحتاج طاقة كبيرة لبعثه، ملتحماً، ومتفاعلاً، في المستوى المأمول. ولعلَّ آليَّة المنْح والمنْع المتعلقة بالمال عملت على تنبيه النزعة الفردية، وعظّمت دورها وأثرها في التفكير والاهتمام، حتى شغلت، بوعي أو بلا وعي، مكانَ المركز، ولو مؤقَّتاً.
تراجع الاهتمام بالقضايا العامة، والشأن الوطني، والمصير المشترك لدى البعض في الضفة الغربية
هذا بشكل عام تنبيه للمحرِّكات المادية المتطاولة في الناس، ثم بالتوازي مع الاحتياجات الملحّة التي لا تحتاج إلى تثوير. ففيما تترقَّب الأُسر الفلسطينية بداية العام الدراسي ينتاب المعيلين فيها قلقٌ؛ أنْ لا ينتظم التعليم، وأن يحصّل أبناؤهم، ولا سيما من هم في المرحلة الابتدائية حظَّهم المناسب من التعليم، وسط مؤشِّرات إلى بداية مضطربة؛ بسبب موقف المعلمين الاحتجاجي، بإعلان دوام جزئي، على خلفية استمرار أزمة انقطاع الرواتب وتفاقمها، وموقف المعلمين (ويشاركهم همَّهم موظفو القطاع العام)، هذا لا تزيُّدَ فيه، إذ ثمة الكثير من الاستحقاقات المعيشية الملحَّة والمؤجَّلة مراراً، ومنهم من يخضع راتبُه المجزوء أصلاً لاقتطاعات البنوك، وهكذا تتشكل أزمات حقيقية لا مفرَّ منها، لكن ليس كلُّ التمظهرات المادية من هذا الطراز، فثمة تمظهرات استهلاكية ترفيهية لدى أوساط أقلَّ تأثراً بالأوضاع وتداعياتها. وعلى الجانبين؛ المضيَّق عليهم، والمستغنين، الشاغل هو العامل المادي سلباً، أو إيجاباً، مع اختلاف الدوافع والخلفيات. وهكذا أصبح العنصر المالي هو مركز تنبُّه الكثيرين في الضفة الغربية…
بالطبع، لا أحد يتوقع، أو يطلب أن تتوقّف الحياة، بل إن استمرار الحياة وصمود قطاعات الإنتاج المختلفة في الضفة الغربية، وفي القطاع، ما أمكن، يُعَدُّ من أشكال التحقُّق الفلسطيني، لكن من دون أن ينسلخ عن الشعور العام؛ هذا الشعور العام الذي يتعذَّر إخضاعه لمقياس دقيق وصارم. ولكن قد تبدر أفعال تنمُّ عن ضعفه، أو غيابه، من قبيل مظاهر الترف العام، والمبالغة في إظهار طقوس الأعراس، ما لا يجتمع مع تأثُّر حقيقي أو مساندة ولو قلبية مع مُصاب أهلنا في قطاع غزّة؛ ما ينذر بتشكُّل أوساط اجتماعية معزولة، أو شبه معزولة عن الشأن العام، وهو شأن طاغٍ في حياتنا اليومية جميعاً، سواء كنَّا نقيم في الضفة، أم في القطاع.
مؤشِّر الخطورة في حالة الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية أنه حتى في وقت التهديد الوجودي لا تزال الفرقة، في معنى الحياة، ماضيةً في طريقها
والأنكى حين يحاول بعضُهم التمسُّح بشعارات ورموز وطنية لتمرير تلك الخروجات غير الجمعية في جوهرها. فيما هذا التشفُّع بالشعار، أو بالرمز، وإن كان سطحياً، فإنه يشي بسطوة الشأن العام، وينبئ عن تعذُّر تجاهُل الحالة الاستثنائية التي تمرُّ بها فلسطين؛ القضية والشعب. ومع أن جزئية الأداء الفلسطيني في الضفة الغربية ليست حاسمة إذا ما استُحضِرت العوامل المساعدة لدولة الاحتلال، دولياً وإقليمياً وعربياً، إلا أنها تبقى البقعة الأقرب والأوثق، ولها دلالتها ورمزيتها، فلو لم تُفِد الوحدة الشعورية إلا تأكيد وحدة الشعب واستشعاره الخطر الوجودي الذي يهدِّده، فهي فائدة جُلَّى. في هذه الدوامة المدوِّخة من الإشغال، وفي هذه الحالة المضطربة من التمثُّلات السياسية المتعارضة لحدود التناقض، بين نهج السلطة المحاصرة إسرائيلياً، وأميركياً، أنْ تخطو نحو الدولة، وبين وقوع الشعب تحت ضربات الاحتلال وفظائع المستوطنين البربرية، وتخلي أكثرية منه عن أيِّ قناعات تمتّ إلى الحلول السلمية، وجدوى التفاوض. فوق أنَّ ما يبديه الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية من ردات فعل على جرائم الإبادة في غزّة لا بدَّ أنه محلُّ مراقبة من الدول الغربية ذات العلاقة، على تبايناتها في مواقفها تجاه فلسطين، من دول تبدو وكأنها تحاول بعض التوازن، وبين أميركا المنحازة حتى التماهي مع حكومة نتنياهو المشهود لها بالتطرُّف والعنصرية، نعم ما يبديه الفلسطينيون في الضفة الغربية يُعتمَد عليه، ولو جزئياً، في تكوين صورة عنهم، وعن وعيهم، والبناء عليها، من خطط وسياسات.
وليست الضفة الغربية نفسها بعيدة عن طاحونة الاحتلال، حيث فرْض وقائع استيطانية خطيرة وذات بعد استراتيجي، ذلك بعدما صادقت سلطات الاحتلال على إطلاق مخطط “إي 1” ضمن مساعي الاحتلال الإسرائيلي لربط مستوطنة معاليه أدوميم بمدينة القدس المحتلة وفصلها عن محيطها الفلسطيني. ويهدف هذا المشروع الاستيطاني إلى فرْض السيطرة على القدس ومنْع تأسيس دولة فلسطينية متصلة جغرافياً.
وإزاء هذه التحدّيات الكبرى، وهي بطبيعتها لا تواجَه بقوى فردية، ولا حتى بقوى تنظيم، أم جماعة، أو حزب، لا نلحظ حالة فلسطينية ترتقي إلى مستواها. يعوق ذلك شواغلُ سطحية، وسعيٌ وراء إنجازات عرَضية.