تغيّر اسم الجادّة… هل يتغيّر الاتجاه؟

تستحيل مناقشة صوابيّة قرار حكومة نوّاف سلام في لبنان القاضي بتغيير اسم طريق المطار الجديد، من جادّة الطاغية حافظ الأسد إلى جادّة المبدع زياد الرحباني. هي خطوة صائبة من دون أية مقدمات وتحليلات ولا أي تسويغ أو تبرير. وصوابيّة الأمر لا تتمحور حول لبنانية زياد أو سورية الأسد، أي إنها لا تنبع من الانتماء الوطني أو من حمْل جنسية الدولة، بقدر ما تتمحور حول أمور أخرى، في مقدمها البؤس في أن تحوي مدينة بيروت أسماء بشوارع الطغاة، أن تخلّد ذكراهم في حين أنهم يسقطون في بلادهم، وإن كان سقوطهم ليس على المنوال الذي نحلُم به، لكنها خطوة في اتجاهٍ يفترض أن تكتمل صحتها بتغيير السياق بأكمله، وتغيير السلوكات والمآذارات وصولاً إلى القوانين، بحيث تتأسّس على بث روح المواطنيّة والديمقراطيّة والتعدّديّة وقيم التسامح، بما يخالف ذلك الخليط السائد من الأبوية والذكورية والديكتاتورية والقمعية والبوليسية… إلخ.

لا تقف خطوة تغيير اسم الجادّة، برمزيّتها، على هذا المستوى، ولا تنتهي عنده وعليه، بل تنطلق منه لتدخل في سردية مختلفة جملةً وتفصيلاً. فمن غير المعروف ما إذا كانت الخطوة السابقة خلف إطلاق اسم الطاغية على طريق المطار في لبنان مقصودة، أو نابعة عن قلة إدراك أو عدم انتباه. لكن ما هذا الشرف العظيم القاضي بتخليد اسم الطاغية ارتباطاً بطريق مطار في بلد عانى نزيف الهجرة طوال المرحلة التي هيمن فيها الأسد وعائلته ونظامه وأجهزة مخابراته وضباطه على لبنان وعلى سورية عقوداً؟ أن يكون اسم الطاغية مرتبطاً بطريق الخروج والهجرة من لبنان، والهرب من سورية، كما بطريق سريع ارتبط اسمُه بكثرة الحوادث القاتلة؟ أغلب الظن أنها هفوة، لكنها هفوة ندرك اليوم أنها كانت تصبّ في مقتل.

خطوة لا تكتمل صحّتها إلا بالانتهاء من معايير وقيم ومآذارات كارثية كانت ترسّخ مرحلة ارتبط اسم لبنان وسورية فيها بالمعاناة والخوف والقلق

ليس في الأمر أي تجنٍّ حين نقول إن المرحلة السابقة، مرحلة هيمنة النظام البعثي السابق وأجهزة المخابرات السورية اللبنانية، والطبقات الناهبة سواء في سورية أو في لبنان، كانت تحدّد مجال الهجرة وترسّخه احتمالاً وحيداً ممكناً بين اللبنانيين وبين السوريين كذلك. أما اليوم، ومع تغيير الاسم، فلا بد أن يتغيّر هذا الاتجاه، بحيث يفترض أن يصبح اسم زياد الرحباني مرتبطاً بالعودة إلى البلاد للعيش بأمان، لا بالرحيل عنها في قلق وخوف. علّ اللبنانيين والسوريين يعيشون في أوطانهم وبين أهاليهم وأصدقائهم بعد كل هذا الانسداد. هنا تكمن روحية مسيرة زياد لا مجرّد اسمه، وإلا فما نفع التغيير، وهل هو مجرّد تغيير لمجرد اسم، أم هو رمز جديد لمرحلة جديدة بدأت بعض ملامحها بالظهور بعد مرحلة طويلة جرى إعلان لحظة إقرار الاسم الجديد، وبشكل رسمي، انتهائها؟

على هذا النحو، تصبح المفارقة أكثر وضوحاً وحديّة، وأكثر تعيّناً، أن يرتبط اسم الطاغية بطريق الهجرة والموت، يعني وبالضرورة أن يرتبط اسم الجادّة الجديد، اسم المبدع زياد الرحباني، بطريق العودة. وإن كانت عودة غير متحقّقة بالضرورة، وإن كانت مجرّد احتمال قد يتحقّق ويمكن ألا يتحقق. هذا هو صلب المسألة.

يرتبط اسم الطاغية بطريق الهجرة والموت، يعني وبالضرورة أن يرتبط اسم الجادّة الجديد، اسم المبدع زياد الرحباني، بطريق العودة

وتغيير الاسم، وتغيير الاتجاه، يعني وبالضرورة تغيير البوصلة، لتتحوّل من البوصلة التي لطالما سعى النظامان إلى استخدامها لتعريف الشعبين بمنهجية النفي، وأعدّا هويات اللبنانيين والسوريين من خلال ربطهما بتأكيد العداء للعدو الخارجي حصرًا، بدل أن تكون نحو الداخل، نحو ما قد يجمعهم ويؤكّد تمايزهم وخصوصياتهم، نحو ما يمكن أن يصبح إمكاناً لبنانياً وسوريّاً للمستقبل، إمكان لبلاد تنتهي فيها البوليسية وحملات الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري. مرحلة تطوى فيها الملاحقات والتوقيفات بسبب رأي، وتنتهي فيها حياة تشفّي وسجن وتعذيب الصحافيين والإعلاميين والكتّاب والمواطنين العاديين… إلخ. خصوصاً أن زياد الرحباني تجلى إبداعه في حريته، وقد تمثّل في خطواته المستمرّة التواقّة إلى كسر التابو الاجتماعي الطائفي المقدس، إلى تكسير البديهيات القاتلة، ولو لم يكن حرّاً لما وصل إلى هذا المستوى من التقدير في أنفس اللبنانيين بمجملهم، خصومه في السياسة قبل حلفائه.

هي، إذن، خطوة لا تكتمل صحّتها إلا بالانتهاء من معايير وقيم ومآذارات كارثية كانت ترسّخ مرحلة ارتبط اسم لبنان وسورية فيها بالمعاناة والخوف والقلق النابعين من الإعاقة المستمرّة المانعة من أن تتحوّلا إلى دولتي قانون ومؤسّسات، بل كانتا حتى الآن دولتين تتحالف وتتحكّم فيهما المليشيات والمافيات وتخضع لهما أجهزة الدولة الأمنية. ذلك التحالف الذي تخطى في هيمنته على البلاد، ونهبه لمقدراتها، كل ما يمكن أن يخطر في بال أي مواطن في أية دولة.

زياد اليوم رمزٌ لإعلان مرحلة جديدة، مرحلة يفترض أن تكون مختلفة على كل المستويات، وإن كانت مرحلة ارتبطت بموته، فهو في حياته لطالما كان رمزاً لإمكان، احتمال مرحلة مختلفة ضمن المراحل السائدة، بل حاول أن يرسم سياقاً مختلفاً عن السياقات المفروضة سواء بالحرب والاعتداءات والاحتلال والهجرة من ناحية، أو بالنهب والتسليع والاستهلاك والاستباحة والتعذيب من نواحٍ ثانية.