المغرب والجزائر والمغرب الكبير

أعلن عقلاء كثيرون قبل خمسين سنة أن تجاوز الخلافات المغربية الجزائرية في موضوعي الحدود والصحراء لن يحصل إلّا بالانخراط في مشروع الوحدة الإقليمية بين مختلف بلدانه، حيث يتحوّل اتحاد المغرب العربي إلى فضاء سياسي جديد، قطب إقليمي قادر على مواجهة التحدّيات المرتبطة بجغرافيّته وتاريخه، من قَبِيل التي تطرحها علاقاته بالاتحاد الأوروبي وبلدان المشرق العربي، وكذا علاقاته بالأفقين المتوسّطي والأفريقي. إلا أن هذا الموقف لم يستمع إليه أحد، ولم يُدرس بالعنايتين التاريخية والسياسية، القادرتين على تجاوز مختلف الحسابات التاريخية والسياسية المرتبطة بزمنٍ آخر، وبما كان يحمله من تصوّرات سياسية، بعضها مرتبط بالتركة الاستعمارية، وبعضها الآخر يرتبط بالنظام الدولي، كما رُتِّبت مبادئه بعد الحرب العالمية الثانية.

اتّجه موقف من ذكرنا نحو ما يمكن أن يؤسّس لقوة بلدان المغرب الكبير، خارج منطق التنافس الثنائي المرتبط بزمن القطبية الثنائية، وقد أصبحت متجاوزة اليوم، في عالم يتحوّل بإيقاع سريع، وتحكمه معطياتٌ جديدةٌ لا علاقة لها بمعايير القطبية التي ذكرنا ومتطلباتها، إضافة إلى مختلف ما عرفته البلدان المغاربية مجتمعةً من تحوّلات، نفترض أن تكون لها نتائج هامة، في باب بناء قطب إقليمي كبير بمساحته وموارده، قُطبٍ قادر على العمل والإنتاج، في عالم ازدادت فيه أهمية المجموعات القادرة على تطوير وتعزيز مكانتها، في عالم لم يعد يسمح بالاكتفاء ببناء التخندقات الصغيرة.

التجميد الذي لحق مؤسّسة اتحاد المغرب العربي، المؤسّس في 17 شباط/ شباط 1989، وإغلاق الحدود بين المغرب والجزائر منذ 30 سنة، ثم مرور نصف قرن على المسيرة الخضراء (1975)، التي جعلت المغرب في قلب صحرائه، وسمحت للجزائر ببناء مخيماتٍ في تندوف، المنطقة الحدودية الواقعة غرب الجزائر، شرق المغرب، حيث يجري إيواء بعض ساكنة الصحراء المغربية، وحيث أنجب بعض ساكنة هذه المخيّمات جيلاً جديداً من الصحراويين، في وقتٍ يواصل فيه المغرب مزيداً من الانخراط في تأهيل صحرائه.. فكيف نفكّر في ضوء ما أشير هنا إليه في الصراع المتواصل بين المغرب والجزائر؟ وكيف نفكر في التجميد الذي عَطَّل مؤسسات اتحاد المغرب العربي؟

لم تتمكّن بلدان المغرب العربي من بناء ما يُطوِّر أنظمتها السياسية في اتجاه توطين المشروع الإصلاحي الديمقراطي

تُطرح هذه الأسئلة ونحن نواجه تحوّلات سياسية واقتصادية جديدة، حصلت في أغلب بلدان المغرب العربي، نطرحها لنعيد النظر في الأسئلة القديمة، في ضوء التحوّلات الجارية داخل المنتظم الدولي، وانعكاساتها على بنية الحياة والإنتاج والتطور داخل هذه البلدان. ونطرحها لأن خطاب العرش الجديد، الذي ألقاه محمد السادس يوم 29 من الشهر الماضي (تموز/ تموز)، تضمّن دعوة موجهة إلى النظام السياسي في الجزائر، من أجل إعادة التفكير في الحلول المناسبة لموضوع الصحراء والصحراويين، فلم يعد من الممكن مواصلة التفكير في الخلاف الجزائري المغربي بمنطق حكام المغرب والجزائر ولغتهما في ستينيات القرن الماضي، لغة هواري بومدين (1932- 1978)، والحسن الثاني (1929- 1999)، كما يصعب التفكير فيه اليوم، وإغفال الأدوار التي يمكن أن يقوم بها اتحاد المغرب العربي المُعَطَّل. إضافة إلى ذلك، يصعب التفكير اليوم في علاقة المغرب بالجزائر من دون مراعاة أسئلة السياسة الراهن في البلدين الجارين، فالتحولات التي عاشها المغرب في صحرائه، ربع قرن من العهد الجديد، ساهمت في بناء معطياتٍ جديدةٍ مرتبطة بالمكانة التي سعى إلى بنائها في علاقته بأفريقيا والمحيط العربي وأوروبا، والولايات المتحدة، الأمر الذي نفترض أنه ستكون له انعكاسات، في موضوع الصحراء داخل دواليب مؤسسات المنتظم الدولي.

لا بد من الإشارة أيضاً إلى الأدوار الجديدة التي تآذارها اليوم وسائط التواصل الاجتماعي، في موضوع توسيع مجالات الصراع، بصورةٍ تسيء إلى البلدين والشعبين، الأمر الذي يستدعي وقف عمليات التأجيج القائمة في هذه الفضاءات، واستبدالها بلغةٍ تستلهم مواقف العقلاء من البلدين الشقيقين، وذلك بالصورة التي تدفع إلى نسج خيوط المصالح المشتركة بينهما، من أجل بناء إقليمٍ قويٍّ بموارده وتجاربه، وتطلعاته الهادفة إلى تشكيل نموذج تنموي متفاعلٍ مع امتداده العروبي والأفريقي والمتوسطي، نموذج مؤسّس للاندماج والاستقرار والتنمية.

لم يعد من الممكن مواصلة التفكير في الخلاف الجزائري المغربي بمنطق حكام المغرب والجزائر ولغتهما في الستينيات

لا نملك اليوم في ضوء المتغيرات الجارية، في محيط مجتمعات بلدان المغرب الكبير، سوى أن نتحدّث عن نوع من الجمود المعطِّل لمشاريع التنمية والتقدّم في هذه البلدان، ووسط هذه المعطيات المعقدة والمركّبة، نلاحظ أن بعض القِوى الأوروبية تتجه لمحاصرة الوجود الأميركي في البلدان المغاربية. نحن نشير هنا إلى كل من فرنسا وإسبانيا، حيث تعمل كل منهما على استعادة مكانتها التقليدية في بلدان المغرب الكبير. ونتصور أن بلورة مقترحات جديدة في الموضوع، تتطلب فتح المجال أمام المناقشات الدائرة، سواء داخل مخيمات تندوف، أو في أوساط النخب السياسية الجزائرية والمغربية، حيث يتيح النقاش إمكانية بناء القواسم المشتركة، المساعِدة على تركيب مستجدّات القضية في علاقاتها بالمتغيّرات التي ذكرنا… وضمن هذا السياق، نبادر بنقد منطق الحتمية الجغرافية، الذي استندت إليه الجزائر لحظة احتضانها بعض الصحراويين، فنحن نتصوّر أن المخيمات المتاخِمة للحدود المغربية الجزائرية في منطقة تندوف لا تُعَدّ فقط مُحصِّلة إكراهٍ أملته الجغرافيا، الأمر أكبر من ذلك، ولو كان مقتصراً على مقتضيات الحتمية الجغرافية، لكان قد دفع الجزائر إلى القيام بدور الوسيط، القادر على احتضان الطرفين المعنيين مباشرة بالمشكل، بهدف محاصرته، لكن حسابات الجزائر لم تسمح لها بالقيام بهذه المهمّة، فاتخذ المشكل وضعاً زاده تشابكاً، وأصبحنا أمام ثلاثة أطراف، المغرب والبوليساريو والجزائر. وترتّبت عن ذلك نتائج أساءت إلى العلاقات المغربية الجزائرية، كما أساءت إلى مؤسّسة اتحاد المغرب العربي.

نجحت دول الاتحاد مجتمعة في التخلّي عن رسالته، وعزله عن مختلف التحوّلات والتحدّيات التي تواجهها بلدانه في علاقتها بالتحدّيات المطروحة داخل كل منها، وفي علاقتها بالمشرق العربي عموماً، وبالمؤسّسة العربية الإقليمية الأخرى. ولم تتمكّن بلدان المغرب العربي من بناء ما يُطوِّر أنظمتها السياسية في اتجاه توطين المشروع الإصلاحي الديمقراطي. كما لم تنجح في مواجهة التحدّيات التي تحول بينها وبين تحقيق ما تتطلّع إليه شعوبها من تنمية وتقدُّم. وضمن هذا السياق، لم تعد ثقافة الصمت والتأجيل مناسبة لمتطلبات المتغيرات الجديدة. نقول هذا لأننا نشعر بأن التفاف أطراف أخرى حول المشكل، قد يجعلنا نصنع اليوم بأيدينا ما نعتقد أنه من صنع الذين يدبّرون “المؤامرات” للإساءة إلينا.