فضاءات القاهرة… استثمارات تحرم الفقراء المتنفس المجاني

تشهد العاصمة المصرية القاهرة تحولات جذرية على امتداد ضفاف نهر النيل وفي مساحاتها الخضراء، إذ تتوالى قرارات الإزالة بزعم التطوير التي يرى البعض أنها تهدف إلى تحويل الفضاءات العامة إلى مشاريع استثمارية، ما يحد من وصول الطبقات الفقيرة والمتوسطة إليها، ويثير مخاوف بشأن الحق في التمتع بالساحات المجانية في ظل أوضاع معيشية متردية.
وفي خطوة أثارت جدلاً واسعاً، أصدرت محافظة الجيزة قراراً بهدم ممشى “مركب فرعون النيل”، وهو معلم سياحي يعود تاريخ ترخيصه إلى عام 1978. ورغم أن أصحابه بادروا بإقامة دعوى قضائية لوقف الهدم، إلا أن المحافظة سارعت إلى هدمه قبل صدور الحكم.
ويُمهد القرار لتسليم الممشى إلى جهاز مشروعات القوات المسلحة (الجيش)، الذي يعتزم إقامة أنشطة استثمارية عليه، في إطار ظاهرة حجب رؤية نهر النيل عن عموم المواطنين المتكررة خلال السنوات الأخيرة.
وبموجب قرار أصدره رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، آلت إلى الجيش ملكية التصرف في أراضي “طرح النيل” بدلاً من وزارة الموارد المائية والري، وهي أراض تمتد إلى نحو 50 كيلومتراً على جانبي النيل في القاهرة. وعادة ما تصدر قرارات إزالة للمخالفات، بينما تُستثنى منها الأندية التابعة للجيش والشرطة والهيئات القضائية، وغيرها من الهيئات والنقابات.

وأزال الجيش العديد من المنشآت المستأجرة من وزارة الري على أراضي طرح النهر في منطقة الزمالك عام 2022، وامتدت الإزالة إلى الضفة الأخرى في منطقة الكيت كات، واستهدفت “العوامات” التي تستخدم بيوتاً لبعض الأسر، ويرجع بعضها إلى فترة الحرب العالمية الأولى.
وأصبح التمتع بنزهة على ضفاف النيل مكلفاً بعد أن فرضت السلطات رسوماً على السير في “ممشى أهل مصر” بقيمة 20 جنيهاً للفرد الواحد، لتُقدر تكلفة نزهة عائلة مكونة من خمسة أفراد بنحو ألف جنيه (الدولار = 48.45 جنيهاً)، شاملة التنقل ورسوم الدخول والمأكولات والمشروبات، ما يجعلها بعيدة عن متناول غالبية الأسر المصرية.

وتنتقد عضو مجلس النواب إيناس عبد الحليم فرض رسوم لمجرد السير على النيل، قائلة لـ”العربي الجديد” إن “كورنيش النيل متنفس مجاني للمواطنين في ظل موجة الغلاء، والدستور يمنح الحق لكل مواطن في التمتع بنهر النيل، ومن ثم يجب ألا يدفع رسوماً لرؤيته أو السير على ضفافه. الممشى تم تمويله من أموال دافعي الضرائب، والجزء العلوي منه (المجاني) لا يرى النيل بوضوح، وفرض رسوم على الجزء السفلي المطل على النيل مخالف للدستور الذي ينص على عدم فرض ضرائب أو رسوم إلا بقانون”.
وتسبب الممشى في تشريد عشرات من أصحاب المراكب التي كانت تنظم رحلات نيلية بأسعار في متناول البسطاء، فضلاً عن منع الأهالي من دخول نصف مساحته بحجة تخصيصها للمطاعم الفاخرة. وافتتحت المرحلة الأولى من الممشى في 2022، بعد ردم مساحات واسعة من النهر، في مخالفة صريحة للدستور الذي ألزم الدولة بحماية النيل، وحظر التعدي على حرمه، أو الإضرار بالبيئة النهرية.
ولا تقتصر التحولات على النيل وحده، بل تشمل أيضاً الحدائق العامة والمساحات الخضراء، التي تتعرض للإزالة، أو تحويلها إلى مشاريع تجارية. وتؤكد النائبة إيناس عبد الحليم أن “الاستثمار لا يعني تغيير الطابع التاريخي المميز للقاهرة، أو تحويل الحدائق العامة إلى تجمعات للمطاعم، باعتبارها المتنفس الوحيد للأسر البسيطة في أيام العطلات، لا سيما مع استمرار إغلاق حديقتي الحيوان والأورمان إلى حين الانتهاء من عمليات التطوير”.

وتُعد حديقتا الحيوان والأورمان من بين الأمثلة الصارخة، إذ أُغلقا في تموز/تموز 2023، لتنفيذ مخطط تطوير بالتعاون مع تحالف إماراتي، في عملية تجرى تحت إشراف شركة الإنتاج الحربي للمشروعات التابعة للجيش.
وشملت حملة الإزالة أيضاً حدائق تاريخية مثل حديقة الفنون وحديقة أم كلثوم في حي المنيل، وحديقة المسلة في حي الزمالك، كما تعرضت حديقة الميريلاند في حي مصر الجديدة وحديقة الطفل في مدينة نصر إلى تغييرات جذرية، واستُبدلت المساحات الخضراء فيها بالمطاعم والمقاهي.
وبينما أصبح مهرجان “محكى القلعة” الذي تنظمه دار الأوبرا المصرية أحد الوجهات القليلة المتاحة للبسطاء، إلا أنه يعاني من سوء التنظيم، وقد منحت دار الأوبرا شركة “تذكرتي” المملوكة للمخابرات العامة مهام حجز حفلات المهرجان مقابل نسبة من قيمة البطاقات بعد رفع سعرها من 40 إلى 100 جنيه للفرد، ما دفع الشركة إلى فتح الباب للحجز إلكترونياً من دون التقيد بعدد المقاعد. وشهد حفل المطرب مدحت صالح الأخير حضور نحو عشرة آلاف شخص في ساحة لا تتسع لأكثر من أربعة آلاف.
وأعربت العاملة في مصنع ملابس بمنطقة الهرم في الجيزة نهى صالح عن استيائها الشديد من سوء التنظيم، قائلة إنها حضرت الحفل رفقة والدتها وطفليها، وفوجئت بعدم وجود مقاعد، أو أماكن قريبة من المسرح، ما دفعهم إلى الوقوف خلف شاشة كبيرة للمشاهدة، والانصراف باكراً بسبب شعورهم بالتعب من جراء الوقوف الطويل. وتقول لـ”العربي الجديد” إنها قررت حضور الحفل مع أسرتها لأنه يعتبر “رخيصاً” مقارنة بأي وسيلة ترفيه أخرى في العطلة الأسبوعية.

وتضيف: “لم يعد هناك مكان للمشي على نهر النيل كما كان الحال سابقاً، بعد حجبه ابتداءً من منطقة المظلات في شبرا حتى ميدان التحرير بسبب مشروع (ممشى أهل مصر)، وسيطرة البواخر والمراكب النيلية الفاخرة على مناطق الزمالك والمنيل والمعادي. لا مكان حالياً لتنزه الفقراء في القاهرة بعد حجب النيل، وإزالة أغلب الحدائق العامة، وتحولها إلى مقاه ومطاعم مخصصة للأغنياء. حتى إن بطاقة صعود برج القاهرة زادت من 70 إلى 150 جنيهاً”.
بدوره، يقول الموظف في إحدى شركات قطاع الأعمال العام محمد عبد المنعم إن أسعار الوجبات الشعبية مثل “الكشري” سجلت أرقاماً قياسية في مناطق وسط القاهرة، وسعر الطبق يبدأ من 50 جنيهاً، ويرتفع إلى نحو 150 جنيهاً حال تناوله في المطاعم الفاخرة. ويوضح لـ”العربي الجديد”: “أنفق 1500 جنيه حداً أدنى لنزهة أسرتي المكونة من أربعة أفراد، إذا ما قررنا الخروج في يوم الإجازة، وهو أمر بات يحدث مرة واحدة في الشهر بعد أن كان أسبوعياً، نتيجة الارتفاع الكبير في أسعار المواصلات والمأكولات، وعدم توفر أماكن مجانية للتنزه بعد تحول جميع الحدائق العامة إلى مطاعم ومقاه”.