شهود الحقيقة… شهداؤها

لا شيء يوجع الضمير الإنساني مثل أن يرى المرء صاحبَ الكلمة الحرّة وقد تحوّل إلى هدفٍ في مرمى بندقيةٍ غادرة، لمجرّد أنه حمل كاميرا أو سجّل شهادة أو كتب سطراً يفضح ما يجري خلف جدران الدم والدخان. في غزّة، ليست الحرب حرباً على المقاومين وأسرهم وحدهم، بل هي أيضاً حربٌ على الشهود؛ أولئك الذين يصرّون على أن يضيئوا زوايا العتمة التي يحاول القاتل أن يُخفي فيها جرائمه.

إصرار الاحتلال على مطاردة الصحافيين والمصوّرين ليس سوى اعترافٍ غير معلن بقوة الحقيقة. الكلمة التي يطلقها شاهد واحد قد تزلزل رواية جيوش من الأكاذيب، والصورة التي يلتقطها مصوّرٌ يمكن أن تحفر في ذاكرة الإنسانية عميقاً. لذلك، يصبح هؤلاء الشهود خط الدفاع الأول عن الذاكرة، وحين يسقطون مضرّجين بدمائهم، لا يموتون كأفراد فحسب، بل تتصدّع معهم جدران الحماية التي تفصل بين المرء والنسيان.

لقد تعوّدنا أن نرى في الأخبار أعداد الشهداء، لكنّنا نكاد ننسى أن بين هؤلاء أسماءً كان قدرُها أن تمسك القلم بدلاً من البندقية، أو ترفع الكاميرا بدلاً من الحجر. هم لا يبحثون عن البطولة، بل يسعون فقط إلى إنقاذ الحقيقة من براثن التزوير. ومع ذلك، غالباً ما يكون ثمن هذا الإنقاذ حياتهم نفسها. أي معادلة قاسية تلك التي تجعل الصحافي في غزّة يوقن، قبل أن يخرُج من بيته، أن عودته غير مضمونة، ومع ذلك يخرُج. أي جرأة إنسانية أعمق من أن تواجه الموت لكي تترك للأحياء أثراً من ضوء؟

اللافت أن القاتل لا يكتفي بارتكاب مجازره، بل يحاول محو آثارها في اللحظة نفسها. في كل بيتٍ يُقصف، هناك عينٌ تريد أن تشهد، وفي كل شارع يُدمّر، هناك صوتٌ يريد أن يروي. لذلك يتحوّل هؤلاء الشهود إلى جزءٍ من ساحة المعركة، لا لأنهم يحملون السلاح، بل لأنهم يحمون الحكاية من الذوبان. ومن هنا، ليس استهدافهم عرضاً جانبيّاً، بل سياسة مرسومة، تهدف إلى وأد القصة قبل أن تُروى.

لكن، هل يمكن فعلاً إخفاء الجريمة بقتل من يراها؟ ربما ينجح الرصاص في إسكات صوتٍ واحد، لكن الصدى لا يمكن قتله. دم الصحافيين في غزّة ليس نهاية الحكاية، بل بداية فصل جديد فيها، فحين تسقط كاميرا ملطّخة بالتراب والدم، سرعان ما يلتقطها آخر، وكأنها رايةٌ في معركة أوسع من حدود الجغرافيا. ولعل أكثر ما يكشف عبثية هذه السياسة أن العالم لم يعرف فظاعة ما يجري لولا ما وثقه أولئك الشهود، رغم أن كثيرين منهم دفعوا حيواتهم ثمناً لذلك. من يعرف غزّة اليوم يعرفها بعيونهم، ويستشعر أنفاسها عبر كلماتهم، ويقيس عمق الجرح من خلال صورهم التي عبرت القارات وحفرت وجوه الضحايا في الضمير الجمعي للإنسانية. لقد صاروا مرآةً لما أراد القاتل أن يخفيه، وصاروا الدليل الأكثر إدانةً له، حتى وهم في قبورهم.

محاولة دفن الحقيقة بالدماء لا تختلف عن محاولة إطفاء النار بالوقود. فما يُراد إخفاؤه يتّسع كلما حاولوا طمسه، وما يُراد محوه يزداد رسوخاً كلما أريق دم جديد في سبيله. ومن هنا، لا يطمس قتل الشاهد الشهادة، بل يخلّدها، ويجعلها أكثر التصاقاً بذاكرة الأحياء.

لقد تعلّمنا من تاريخ الشعوب أن الحقيقة، مهما طال حصارها، تعرف طريقها إلى النور. قد يتأخّر الاعتراف بها، وقد يحاول الأقوياء تزويرها، لكنها لا تموتُ بموت أصحابها. في غزّة اليوم، الشهود يسقطون تباعاً، ومع ذلك تتّسع دوائر الحكاية، وتزداد وضوحاً، كأن دماءهم صارت مداداً إضافياً يكتب بها الناجون سرديّتهم الكبرى.

استهداف شهود الحقيقة جريمة مركّبة؛ فهي ليست فقط جريمة قتل فرد، بل هي محاولة قتل للذاكرة الجمعية، واعتداء على حقّ الإنسانية كلها في أن تعرف. من يمنع المرء من أن يرى يحاول أن يسلبه إنسانيته، ومن يقتلع الكلمة من فم شاهد واحد يريد أن يصنع فراغاً في الضمير العالمي. ومع ذلك، لا يلبث هذا الفراغ أن يُملأ بأصوات أخرى، أكثر عناداً وأشد إصراراً على مواجهة العتمة.

غزّة اليوم ليست فقط جغرافيا محاصرة بالنار، بل هي أيضاً مختبر قاسٍ لمعنى الشهادة والكتابة والتوثيق. هناك، يكتشف المرء أن الكلمة يمكن أن تكون قدراً أثقل من الرصاصة، وأن نقل الحقيقة قد يساوي التضحية بالحياة نفسها. ومن هناك، يتعلّم العالم كله أنّ الدم الذي يسيل على دفتر صحافي أو عدسة مصوّر لا يضيع، بل يتحوّل إلى لغةٍ أبديةٍ تفضح القتلة جيلاً بعد جيل.

الحقيقة لا تُمحى. قد ينهار البيت على ساكنيه، وقد تتناثر الكتب في الشوارع المحترقة، وقد تتحول الكاميرا إلى حطام، لكن الشهادة تبقى، لأنّها تسكن في عيون من رأوا، وفي ذاكرة من قرأوا، وفي قلب كل من أدرك أن محاولة إسكات الشهود ليست سوى برهان أخير على أن الحقيقة أقوى من القتلة.