التحديث الاقتصادي في السعودية والأردن

رؤية 2030 التي يقودها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ينطبق عليها ما كان علماء التنمية الاقتصادية يسمونه الدفعة الكبيرة أو “Big Push”. وقد تبنى هذه النظرية عدد من الاقتصاديين البارزين، والذين كان بعضهم يعمل في البنك الدولي من أجل إعادة بناء الدول التي تهدمت بفعل الحرب العالمية الثانية والدمار الذي ألحقته بالدول المتحاربة المهزوم منها (ألمانيا وإيطاليا واليابان) أو المنتصر (المملكة المتحدة وفرنسا على وجه الخصوص). ومن أبرز هؤلاء الاقتصاديين بول روزنشتاين – رودان وألبرت هيرشمان وجونار ميردال. قال هؤلاء إن هناك ثلاثة متطلبات للتنمية لا يمكن تجزئتها؛ وهي البنى التحتية والطلب والادخارات. ولذلك يجب أن نأخذ بعين الاعتبار تداخل الفضاءات وتأثير النمو في بعضها على النمو في البعض الآخر.

ولو تأملنا في النموذج السعودي فإنه يسعى إلى تقليل الاعتماد على النفط والذي وصل إلى أسعار عالية في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي وصلت حصيلتها من 85% إلى 90% من الناتج المحلي الإجمالي. ولكن هذه النسبة هبطت في العقد الثاني من القرن العشرين من 45% إلى 50% من الناتج المحلي الإجمالي. أما في عام 2022 فإن النسبة ارتفعت إلى 46% في الربع الثاني من العام. ولكنها في الربع الرابع من عام 2024 وصلت إلى ما يقارب 20%. هذا التذبذب في النسبة يعود إلى مقدار النجاح المتحقق في رؤية 2030 وإلى أسعار النفط والغاز، وإلى حالة الأسواق العالمية واحترام اتفاقات (+OPEC) من قبل الموقعين على قراراتها من الدول المنتجة. ولكن هذا التقلب في سعر الطاقة الأحفورية أصبح مصدر قلق لمنتجي النفط وكبار المصدرين مثل السعودية، ولا يمكن الاعتماد عليه لتأمين حاجات الاقتصاد الكلي والمواطنين السعوديين. 

وقد حللت السعودية أوضاعها فوصلت إلى مجموعة من القرارات المهمة. ولعل أهمها وأبرزها هو أن المملكة بحاجة إلى الاعتماد أساساً على قواها العاملة الوطنية لإنجاز المشروعات والتحولات المطلوبة. وحتى توسع دائرة الاعتماد على المواطنين فقد اقتضى الأمر أن تسمح للنساء بالعمل وبحرية الحركة وسواقة السيارات، واقتضى ذلك رفع بعض القيود المبالغة في التحفظ على الاختلاط، والانتقال والعمل. وكذلك تطلب الأمر ضبط التوظيف في القطاعين العام والخاص للاستفادة من الأيدي العاملة المتاحة والعازفة طوعاً أو كرهاً عن العمل. وأخيراً كان لا بد من فتح المجال للشباب المبدعين لكي يغامروا فيما هم قادرون عليه. علماً أن السعودية أرسلت الآلاف المؤلفة من الشباب في بعثات دراسية إلى الدول المتقدمة في أميركا وأوروبا، وكثير منهم صار يطمح للانفتاح والحرية والتعبير وآثر المكوث والعمل في بلد الدراسة. ولذلك رأت السعودية أن إطلاق طاقات الشباب لا تتناسب مع أخلاقيات ومُثل المجتمع المحافظ جداً فيه.

ولذلك منحت الشباب مزيداً من الحرية ضمن حدود، ورأت أن السياحة الخارجية التي يقوم بها السعوديون مكلفة، ولذلك قررت أن تشجع السياحة الداخلية وتوفر مغرياتها لكي يبقى السعوديون في السعودية ولكي تجذب سياحاً كثراً غير الحجاج والمعتمرين، وكذلك فتحت أبواب العمرة، وأرقام الحجاج القادمين من الخارج ضمن الأرقام القديمة رغم مشروعات التوسع التي أجرتها على الأماكن التي تؤدى فيها مناسك الحج الأساسية. وركزت بشكل واضح على السياحة الترفيهية والثقافية والغناء والموسيقى. وأقامت شركات إعلامية كبرى أدت إلى السيطرة على إنتاج الموسيقى والأفلام والمسلسلات داخل المملكة وخارجها. ورأينا دولاً مثل مصر تتراجع أمام التوسع الكبير في صناعة الترفيه في دول الخليج عموماً والسعودية خصوصاً. كذلك، روجت للفن الخليجي، وجذبت إليها نجوم الغناء ليقدموا أغاني خليجية. والترويج الثقافي من هذا النوع يكون عنصراً مساعداً في الترويج للبلد ومنتجاته السلعية والخدمية.

وكان تشجيع السياحة يتطلب تطوراً كبيراً في المرافق السياحية المحلية وخلق نقاط جذب جديدة، والتركيز على قطاعات ثلاثة لها أبعاد سياحية من حيث تشجيع السياحة من الخارج والسياحة الداخلية في آن واحد. وهذه القطاعات الثلاثة هي الرياضة والصحة والتعليم. وفي مجال الرياضة هناك تنافس بين دول الخليج في مباريات التنس الأرضي وسباق الهجن والفورمولا ون والراليات وكرة القدم. وكذلك رأينا التمدّد في الاستثمار الكروي في أوروبا، وكيف أن الأندية التي يملكها مواطنون من الخليج هي من أفضل الأندية نجاحاً وأكثرها حيازة للجوائز.

تستطيع أن تستمر في التحليل في هذه الأمور، لكن المهم هو أن دول الخليج تركز كلها الآن من دون استثناء على التكنولوجيا المتقدمة في عدد من المجالات مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتوكس والأمن السيبراني وأدوات المراقبة الأمنية على الحدود وفي المطارات والشوارع. وكذلك نراها تستثمر في الطاقة البديلة مثل الطاقة الشمسية والطاقة الخضراء. وكذلك، فإنها في المجالات الاستثمارية تقدمت في أسواق المال والمضاربات والاستثمار الإسلامي (كالصيرفة والصكوك)، وفي مجال العملات المشفرة والدفع الإلكتروني وتنظيم الطرق والسير. 

كل هذه الأمثلة تدلل على أنه لم يكن أمام السعودية إلا أن تتبنى نظرية الدفعة الكبيرة في مقاربتها للنمو. وفي تقديري أنها اتخذت القرار الصحيح. لكن هناك جهات محافظة لا يسرّها ما تراه من تغيير في تقليل الأمر المعروف والنهي على المنكر، وفي إقامة المهرجانات في جدة بالقرب من مكة، ولا سرعة التغيير الذي يجعلها في حيرة من أمرها. وهذه القضية بحاجة إلى رعاية وانتباه. كذلك، فإن تطبيق أسلوب التركيز على كل القطاعات الاقتصادية دفعة واحدة يثير التساؤل عن الأسلوب الأنجع للإدارة المالية ومراقبة جداول المدفوعات المالية وضبط المديونية، ومراقبة الإدارة التي تبرمج للتنفيذ بشكل دقيق. ولا بد لبعض الأخطاء أن ترتكب وبعض الخسائر غير المبررة أن تحصل. لكن النجاح يجعل كل هذه التحديات كلفة متواضعة حيال الفوائد الكبرى للتنمية المدروسة. 

أما الأردن من جهة أخرى، فوضعه مختلف تماماً عن السعودية، إذ يعاني، مقارنة بجارته الكبرى، من مشكلة السيولة عموماً. وتتمثل هذه المشكلة، كما قال خبير المياه الدكتور منذر حدادين، في نقص الماء والنفط والمال. وفوق ذلك جاءت أحداث الربيع العربي لترفع عدد سكان الأردن، عدا عن اللاجئين الفلسطينيين. وهكذا فإن متطلبات الدفعة الكبيرة غير متاحة في الأردن لأنها تتطلب توفير التمويل المطلوب والذي تقدره رقمياً رؤية 2033 بحوالي أربعة مليارات دولار سنوياً أو أربعين مليار دولار خلال سنوات الخطة العشر. وكذلك فإن الأردن لا تتوفر لديه المياه، فهو واحد من أفقر ثلاث دول في العالم في المياه. وأخيراً فإن الأردن لا يجد ما يكفي من مصادر الطاقة ذات الكلفة المعقولة، لأن ذلك يتطلب استثماراً في البنية الأساسية للكهرباء (شبكات الكهرباء وتوسيعها).

لكنّ الأردن، كما يؤكد الأمير الحسن بن طلال، يجب أن يأخذ المياه والطاقة والبيئة كرزمة واحدة متكاملة ويعمل على أن تكون الاستثمارات في هذه القطاعات الثلاثة متممة لبعضها البعض. وكذلك فإن صاحب الرؤية ورائدها في الأردن الملك عبد الله الثاني بمشاركة ولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله الثاني يرى أن هناك قطاعات تكنولوجية متقدمة لا بد من التركيز عليها خصوصاً في مجالات الذكاء الاصطناعي وتنويع وإضافة المحتوى العربي والبرمجيات وغيرها. والأردن يتمتع في هذه القطاعات بالخبرات المطلوبة وأثبت شبابه الذين أنشأوا شركات ساهمت فيها واشترتها شركات تكنولوجيا معلومات عالمية أنهم قادرون على الإبداع. وتقدم جامعة الأميرة سمية بنت الحسن والجامعة الأردنية والجامعة الألمانية وجامعة الأمير الحسين للتكنولوجيا برامج متطورة في عدد من القطاعات. ولذلك فإن الأردن الذي يقدم لنفسه وللدول العربية والدول الكبرى عشرات الآلاف من المختصين في تكنولوجيا المعلومات قادر على أن يساهم في هذا المجال بشكل قوي. ولعلّ واحدة من أهم الفعاليات هو جعل الأردن حلقة مهمة في سلسلة التزويد الإقليمية والعالمية والتي قد تخلق ما يقارب خمسين ألف فرصة عمل في الأردن.

ولا بد للأردن من أن يعيد إحياء قطاعات موجودة عن طريق إعادة هيكلة المؤسسات في هذه القطاعات وأهمها السياحة التي يتباهى الأردن بتنوعها وغناها والبنى التحتية والفوقية المطلوبة لتنشيط هذا القطاع محدودة وكلفتها محتملة. وكذلك قطاع الصحة وإعادة تأهيل المستشفيات وتنظيم عملها ومواردها المالية. والطب في الأردن متقدم ولكنه بحاجة إلى استكمال نظمه. وكذلك قطاع التعليم للأردنيين وللطلاب الأجانب سواء في المدارس أو المعاهد العليا أو الجامعات. والصناعة في الأردن بحاجة إلى إعادة دراسة. أما الزراعة الأردنية فقد قطعت أشواطاً في استخدام الوسائل الحديثة، وإذا تقدمت وتطورت وسائل توفير المياه واستخداماتها الرشيدة فإن هذا القطاع قادر على التنوع واختراق الأسواق. ويبقى أمام الأردن التحدي الأكبر وهو قطاع النقل.

والأردن يجب أن يعيد النظر بشكل شمولي في هذا القطاع ويستثمر فيه لأنه صار يشكل ضغوطاً نفسية كبيرة على المواطنين في جيوبهم (شراء السيارات والوقود) وعلى معنوياتهم (الازدحام الكبير) وعلى انتاجيتهم وهدر الوقت. وما لم يُفعَّل هذا القطاع فإن إنتاجية الاقتصاد الأردني سوف تبقى دون الحد الأمثل لها. ولكي يتوفر التمويل اللازم، فلا بد من إنشاء بنك إنمائي برأسمال قدره مليار دولار لتمويل مشروعات التنمية والعمل كرافعة لرؤوس الأموال. وكوسيلة تفاوض مع الدائنين أو الشركاء المحتملين لمشروعات التنمية. وهذا البنك مطلوب بشدة ليكون المدير المالي لخطة التنمية، لأن لا أحد الآن يدير هذا الملف في الأردن. مع الفارق في الظروف بين البلدين الأردن والسعودية إلا أن كليهما قادر على تنفيذ رؤيته وتحسين صورة المستقبل أمام مواطنيه.