تعيش قرية بيرين، شرق الخليل، جنوبي الضفة الغربية، تحت حصار استيطاني خانق، بعدما تحولت أراضيها إلى مسرح لتوسع استعماري متسارع، إذ أقام المستوطنون خلال اليومين الماضيين بؤرتين جديدتين داخل القرية، جرّفوا خلالهما الأراضي وشقّوا الطرق، ونقلوا إليها عشرات البيوت المتنقلة (الكرفانات). وتجري عمليات التوسع بحماية عسكرية ودعم من حكومة الاحتلال الإسرائيلي التي جعلت القرية الصغيرة بسكانها الـ530 نسمة محاطة من الجهات الأربع بمستوطنات ومعسكر للجيش الإسرائيلي، فيما تُسجّل اعتداءات شبه يومية على الأهالي ومصادر رزقهم، ويخشون من أن يكون مصير قريتهم الانعزال الكامل عن محيطها، تمهيدًا لمرحلة التهجير الكامل منها.
ويتحدث رئيس مجلس قروي بيرين فريد برقان، في حديث مع “العربي الجديد”، عن الأسلوب الذي يتبعه المستوطنون في السيطرة على أراضي الفلسطينيين، إذ يبدأ الأمر عادة بوصول أحدهم مع غنمتين فقط، قبل أن يتحوّل خلال أيام إلى بؤرة استيطانية كاملة فيها خدمات لهذا المستوطن وعائلته. ويشير برقان إلى أنّ الأهالي فوجئوا خلال الأسبوع الماضي بإنزال ستة كرفانات دفعة واحدة في المستوطنة التي يجري العمل عليها منذ مطلع حزيران/ حزيران الماضي، والتي تدعى “متسيبي زيف”، حيث باتت تضمّ 12 كرفاناً.
وبحسب برقان، فوجئ أهالي القرية، يوم السبت الماضي، بأن المستوطنين شرعوا مجدداً بشقّ طرقٍ استيطانية داخل أراضيهم، وشقوا شوارع فرعية وجلبوا المزيد من الكرفانات (البيوت المتنقلة) بشكل متقطع، حتى طلع فجر الاثنين الماضي، وقد وجدوا بؤرتين جديدتين على أراضي القرية؛ واحدة تضمّ 20 كرفاناً، والأخرى 50 كرفاناً. ويقول برقان: “واحدة من البؤر كانت قبل أسابيع تضم كرفاناً واحداً، تحوّلت اليوم إلى مستوطنة متكاملة بشوارع معبّدة وكهرباء ومياه، وربطها الاحتلال بشارع جديد يصل مستوطنتي (بني حيفر)، و(متسيبي زيف)، بطول أربعة كيلومترات. وبالقرب منها أقيم معسكر للجيش الاسرائيلي، ومبانٍ ضخمة ادُّعي أنها كنيس يهودي، لكنها في الحقيقة مساكن للمستوطنين”.
ويلفت برقان إلى أن تطورات الاستيطان لا تتوقف؛ ففي 13 إبريل/ نيسان الماضي، أشرف مستوطن يُدعى شموئيل أفيجاي على تجريف واسع استولى خلاله على 1400 دونم، رافقه نصب بوابات وكاميرات مراقبة وأعمدة كهرباء وأبراج، وزراعة أشجار، وفتح طرق جديدة انطلاقاً من منطقة سدّة الفحص، جنوب مدينة الخليل، وصولاً إلى منطقة تسمى خلايل المغربي محاذية لبيرين. وخلال الأيام الماضية جلب المستوطن عشرين كرفاناً وزوّد المنطقة بالطاقة الشمسية، حتى أصبحت بؤرة جديدة، ثمّ في منطقة مجاورة جلب المستوطنون 50 كرفاناً، وأقاموا بؤرة أخرى، إضافة لتسيير حافلات يومية إلى مواقع البؤر لتحفيز المستوطنين على الإقامة فيها.
ذلك يعني أنه خلال الأسبوع الجاري، وفي أقل من 24 ساعة، وصل إلى أراضي بيرين 70 كرفاناً جديداً، في خطة تستهدف سبعة آلاف دونم تعود للقرية، بينها 1400 دونم لصالح بؤرة تدعى “أدورين”، إضافة إلى خمسة آلاف دونم لصالح البؤرة الأخرى والطرق الواصلة بينهما. ويؤكد برقان أن بعض الكرفانات وضعت على بعد لا يتجاوز خمسة أمتار عن منازل الفلسطينيين في القرية، فيما نُصبت نجمة داوود ضخمة عند مدخل القرية الرئيسي “وكأنها إعلان صريح بالسيطرة الكاملة على بيرين”، وفق قوله.
ويشير برقان إلى أنّ قرية بيرين صغيرة ومحاصرة، لا يتجاوز عدد سكانها 530 نسمة، معظمهم مهجّرون منذ عام 1948، وهم يتعرّضون بشكل متكرر لاعتداءات المستوطنين من حرق منازل ومركبات، وصولاً إلى محاولات الطعن والاعتداء المباشر على النساء والأطفال. وبحسب ما يقول رئيس المجلس، فإنّ غياب استجابة المؤسسات الفلسطينية والدولية فاقم معاناة السكان، إذ فقد كثيرون مصدر رزقهم الوحيد المتمثل في تربية الأغنام، بعدما سرق المستوطنون المواشي، وأحرقوا المراعي والمزارع. ويضيف “هناك عائلات منذ ثلاثة أشهر بالكاد تأكل خبزاً جافاً، وقد دخل بعض الآباء في حالة نفسية صعبة نتيجة انعدام الموارد اللازمة لأسرهم”.
أما عن الأهمية الاستراتيجية للاستيطان في بيرين، فيوضح رئيس مجلس قروي بيرين فريد برقان أنها قرية جبلية ترتفع أكثر من 800 متر عن سطح البحر، وتشرف على منطقة الأغوار والبحر الميت، وتكشف مناطق الخليل وقرية بني نعيم شمالاً، ومدينة يطا ومسافرها جنوباً، ما يجعلها نقطة حساسة ضمن مخطط الاحتلال لإحكام الطوق على المنطقة وربط المستوطنات المحيطة بها. ويؤكد برقان في هذا السياق أنّ أهالي بيرين “متمسكون بأرضهم ولن يغادروها، لكنهم بحاجة إلى دعم حقيقي من المؤسسات لتأمين صمودهم على الأقل بتوفير الغذاء والعلف لمواشيهم، لأنّ بقاءهم في أرضهم هو خط الدفاع الأخير في مواجهة التوسع الاستيطاني”.
ومن زاوية أوسع، يبين الباحث في مركز أبحاث الأراضي راجح التلاحمة، في حديث لـ”العربي الجديد”، أنّ “هذه الأهمية الاستراتيجية لا تقتصر على بيرين وحدها، بل تمتد إلى كامل المنطقة الشرقية من الخليل الممتدة بين شمال يطا (جنوباً)، وجنوب بني نعيم (شمالاً)، والتي تشكّل محوراً رئيسياً في المشروع الاستيطاني الإسرائيلي”. ويوضح التلاحمة أنّ الاحتلال يسعى إلى ملء ما يسميه بـ”الحلقات المفقودة” عبر إنشاء بؤر جديدة تربط التلال الشرقية بمدينة الخليل والمستوطنات المحيطة بها، ضمن خطة تهدف إلى تحويلها إلى كتلة استيطانية مترابطة.
ويؤكد التلاحمة أنّ الاحتلال يرى في هذه التلال فراغات جغرافية لا بد من تعبئتها سريعاً، لذلك يسارع إلى إقامة بؤر استيطانية وربطها بشبكة طرق التفافية، ما يجعلها كتلة مترابطة تعزز السيطرة على المنطقة، ويشير إلى أنّ المشهد الحالي، من جنوب الخليل حتى شرقها، يكشف عن خطة متكاملة، بعدما باتت معظم التلال الشرقية مشبعة بالبؤر والمستوطنات المتصلة في ما بينها، ويبيّن أنّ هذا التمدد الاستيطاني يحظى بغطاء حكومي مباشر ودعم مالي غير مسبوق، إذ تضخ وزارات إسرائيلية ميزانيات ضخمة لمشاريع البنية التحتية في البؤر الجديدة، إلى جانب دعم مؤسسات مثل “كيرن هجِبعوت – صندوق التلال”، التي تعمل على إنشاء بؤر استيطانية في المناطق المصنفة “ج” من الضفة الغربية، من خلال توفير الكرفانات، وتجهيز الطرق، وأحياناً تقديم خدمات الحراسة، مع تلقيها تمويلات إضافية من جماعات يهودية في الولايات المتحدة، ووزارات رسمية مثل الأمن الداخلي والإسكان في حكومة الاحتلال، كما يجري في بيرين.
ويوضح التلاحمة أنّ حصيلة هذه السياسة ظهرت بانتشار ما يقارب 50 بؤرة استيطانية، رعوية وزراعية وسكنية، تمتد من جنوب شرقي الخليل حتى شمالها، أقيمت آخرها بالتزامن مع بؤر بيرين في أطراف مسافر يطا الشرقية بمنطقة تُعرف باسم “حوارة”، حيث بدأ المستوطنون نصب بيوت خشبية تمهيداً لربطها بالطرق المؤدية إلى بؤر بيرين، ويرى أنّ “الهدف من ربط هذه البؤر والمستوطنات يتجاوز التوسع العمراني الاستيطاني، ليصل إلى تقطيع أوصال القرى الفلسطينية ومنع نموها في المناطق المصنفة (ج)، وبالتالي إجهاض أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية”.
ويوضح أنّ الاحتلال يسعى للوصول إلى فكرة “استيطان واحتلال بأقل التكاليف”، إذ حلّت مجموعات المستوطنين في البؤر الرعوية والزراعية محلّ الجيش الاسرائيلي، بعدما جرى تسليحها بقرار من وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير. ويؤكد التلاحمة أنّ الأخير يعمل على تحويل هذه المجموعات إلى ما يشبه قوة شرطة إسرائيلية رسمية، ما يحميها من أي ملاحقة قانونية رغم ما ترتكبه من انتهاكات يومية بحق الفلسطينيين.