تاريخ الإبادة الجماعية… تفكيك ظاهرة العنف

يفكك الباحث الهولندي أبرام دي سوان، عمليات القتل التي تقوم بها جماعاتٌ ضدَّ فئات محدّدة منها، في كتابه “تاريخ الإبادة الجماعية: تحولات العنف في تاريخ البشرية”، الصادر حديثاً عن دار اكتب، بترجمة سارة الشحات وميرفت الشيخ. والكتاب يقدّم مقاربة سوسيولوجية لمسألة الإبادة، محاولاً تفسير الآليات التي تجعل منها ممكنة ومقبولة في المجتمعات الحديثة.

يتألف الكتاب من 424 صفحة، موزعة على تسعة فصول، ويتناول فيه دي سوان الظروف التي تحدث فيها الإبادة، أو اشتراطاتها الوظيفية، عبر تفصيله للفضاءات الزمنية والمكانية التي تُعلّق فيها المعايير الأخلاقية، أو يوقف العمل بها، فيُتاح ارتكاب جرائم الإبادة، وكأنها أفعال عادية. كما يحلل ظاهرة القتل الجماعي، في إطار العلاقة بين الدولة الحديثة، وإمكانياتها في تحويل العنف إلى سياسة ممنهجة.

يتوقف دي سوان عند أمثلة للإبادة، مثل مجازر رواندا، وحملات التطهير في الاتحاد السوفييتي، وأعمال العنف التي رافقت تقسيم الهند. ومن خلال هذه الأمثلة يرسم خريطة لأنماط متكررة من الإبادة، تتوزع إلى مستعمرين يقتلون السكان الأصليين، وأنظمة تستخدم عمليات القتل الجماعي لترسيخ سلطتها، وأنظمة خاسرة تقتل في لحظة الانهيار، وأخيراً مذابح جماعية ضدّ فئة من المجتمع، تحدث برعاية ضمنية من السلطة أو تحت أنظارها.

وفي سياق تحليله الإبادات الجماعية، يناقش المؤلف فكرة مفادها أن مرتكبي جرائم الإبادة، في كثير من الأحيان، أناسٌ عاديون، أُدرجوا في أجهزة الدولة أو انخرطوا في جماعاتها المسلحة. هؤلاء، كما يوضح المؤلف، يُعاد تشكيل وعيهم عبر آليات تجرّد الضحايا من إنسانيتهم، وتحولهم إلى “آخر” لا يستحق الحماية. وفي السياق ذاته، يتناول المؤلف البعد النفسي والاجتماعي، لإجراء تقسيم المجتمع إلى فئات معزولة، يظهر قتلهم كما لو أنه أمر قانوني، ولا يتعارض مع الأخلاق العامة. 

يتناول دي سوان مستويات متعددة من الإبادة، من الإطار المؤسسي للدولة، إلى دور المنظمات الوسيطة، وصولًا إلى السِّيَر الفردية للجناة، ويجد أنهم يشتركون في نمط معيّن، فهم يطيعون الأوامر بسهولة، ويشعرون بالتعاطف فقط مع الدائرة الضيقة من جماعتهم. ومن الناحية الذهنية، يقومون بفصل أفعالهم العنيفة عن ذواتهم.

في الكتاب مجموعة من الأبحاث الاجتماعية والنفسية، التي تقارن بين حالات مختلفة، كما يعرض المؤلف أمام القارئ مادة تحليلية تساعده على فهم كيف تتحوّل مجتمعات كاملة إلى أفراد إباديين. مع ذلك، لا يترك دي سوان للظروف أن تبيح القتل، فحتى في الإبادت الجماعية، هناك من يَقتل، وهناك من يرفض القتل، والكتاب بحثٌ في هذا التفضيل بين النموذجين.