يشهد العالم اليوم نقاشاً محتدماً حول الدور الذي سيلعبه الذكاء الاصطناعي في سوق العمل والأسواق المالية. وبينما يرى البعض فيه ثورة إنتاجية قادرة على دفع عجلة النمو الاقتصادي، يحذّر آخرون من كونه تهديداً مباشراً لوظائف ملايين البشر في قطاعات مختلفة.
تحوّلات ملموسة بفضل الذكاء الاصطناعي
تبيّن وكالة بلومبيرغ الأميركية، أنّ الذكاء الاصطناعي بدأ بالفعل بإحداث تغييرات ملموسة في قطاعات حيوية مثل خدمة العملاء. أحد رواد الأعمال كشف أن شركته الإلكترونية، المدعومة بأنظمة ذكاء اصطناعي، نجحت في تحقيق قفزات كبيرة في الإنتاجية، ما قلّص الحاجة إلى عدد كبير من الموظفين في مراكز الاتصال وحتى في تطوير البرمجيات.
وما يزيد من المخاوف أنّ هذه التغييرات تجري قبل وصول تقنيات أخرى إلى مرحلة النضج الكامل، مثل القيادة الذاتية، التي قد تعني لاحقاً تقويض قطاع سيارات الأجرة وخدمات التوصيل، وربما إعادة رسم الخريطة الاقتصادية لهذه الصناعات بأكملها.
القطاعات “المحصّنة” في دائرة الخطر
لا يقتصر القلق على الوظائف الروتينية أو منخفضة المهارة، فمهن ذات “خنادق دفاعية” تقليدية، مثل المحاماة والطب، قد تواجه أيضاً ضغوطاً متزايدة من حلول آلية أكثر سرعة وكفاءة. والسؤال المفتوح هو: إلى متى ستصمد هذه القطاعات أمام موجة الأتمتة المتقدمة؟
يشير التقرير إلى قوتين متعارضتين تتحركان في الأسواق: من جهة، يساهم الذكاء الاصطناعي في رفع الإنتاجية ومعالجة واحدة من أعقد مشاكل الاقتصاد الحديث، وهي تباطؤ نمو نصيب الفرد. هذا العامل قد يكون نبأ سارّاً على المدى الطويل، إذ يفتح الباب أمام تحسين مستويات المعيشة وتعزيز القدرة التنافسية.
من جهة أخرى، هناك مخاطر جدية بارتفاع معدلات البطالة إذا ما تعرّضت صناعات كاملة للهزّة. مثل هذا السيناريو قد يترك “ندوباً اقتصادية طويلة الأمد” شبيهة بما حدث في المجتمعات الغربية، بعد إغلاق المصانع، وتراجع الصناعات التقليدية، خلال حقبة ما بعد التصنيع. ويشير خبراء إلى أن مواجهة هذه التداعيات لن تكون سهلة، وأن الحكومات قد تضطر إلى توسيع إنفاقها العام بشكل كبير لحماية العمال المسرّحين أو تعويضهم.
المحلل فينسنت ديلوارد من شبكة الخدمات المالية العالمية “ستون إكس”، يرى أنّ الخطر الذي يهدد المهنيين ذوي الياقات البيضاء قد يغيّر المزاج الاجتماعي، ويدفع إلى المطالبة بحماية وتعويضات لم تكن مطروحة بهذا الزخم في موجات التحول التكنولوجي السابقة. هذا التوجه يتقاطع مع واقع اقتصادي يطغى عليه التحفيز المستمر، رغم تدهور الميزانيات الوطنية ومخاوف أسواق السندات. في الولايات المتحدة مثلاً، يبرز إصرار الرئيس دونالد ترامب على إحكام قبضته على مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) دليلاً إضافياً على استمرار سياسات التدخل القوي في الاقتصاد، بحسب “بلومبيرغ”.
انعكاسات استثمارية
على صعيد الاستثمار، يبدو أنّ التداخل بين التحفيز الاقتصادي وتحسن الإنتاجية يمنح الشركات فرصاً لزيادة هوامش أرباحها. غير أنّ التقرير يلفت الانتباه إلى نقطة مهمة: الرهان الأفضل قد لا يكون على شركات الذكاء الاصطناعي نفسها، بل على الشركات والقطاعات التي ستستفيد من تعميم هذه التكنولوجيا وتطبيقاتها.
الذكاء الاصطناعي لن يستحوذ على جميع الوظائف، لكن إزاحته التدريجية لقطاعات محددة تكفي لإحداث أثر بالغ في سوق العمل والأسواق المالية. وبين وعد الإنتاجية ومخاطر البطالة، يجد العالم نفسه أمام معادلة معقدة تتطلب استجابات سياسية واقتصادية جديدة، فيما تبقى الاستثمارات هي الساحة التي ستكشف الرابحين والخاسرين من هذه التحولات.