خطت إسبانيا، أمس الاثنين، خطوة إضافية لمعاقبة إسرائيل على جرائمها في قطاع غزة، وهي دولة سبّاقة، إلى جانب أيرلندا، في اتخاذ مواقف أخلاقية وقرارات عملية ضد الاحتلال على الأقل منذ بدء إبادة غزة. ويواكب رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز الموجة القوية في أوروبا، شعبياً وسياسياً، والتي باتت أكثر جرأة في إدانة حرب الإبادة والتجويع في غزة، وسط تململ أوروبي من الاحتكار الأميركي لمسار التفاوض لوقف الحرب، والدعم المفتوح الذي يبديه الرئيس دونالد ترامب لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لاجتياح مدينة غزة دون التفات للعواقب. وإن كانت إسبانيا منذ بداية الحرب في السابع من تشرين الأول/ تشرين الأول 2023، سبّاقة في الدعوة إلى وقف إطلاق النار، ودعم القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد الاحتلال في محكمة العدل الدولية، ثم الاعتراف بفلسطين، إلا أن هناك من رأى أن خطواتها ظلّت ناقصة أو رمزية بسبب عدم فرضها حظراً حقيقياً على توريد أو استيراد أو منع رسو شحنات الأسلحة من دولة الاحتلال وإليها في موانئها. من جهتها، تهاجم تل أبيب مدريد وحكومة سانشيز الاشتراكية وتحالفها اليساري، لا سيما باتهامها بمعاداة السامية، وهو ما يتوقع أن تزداد حدّته، خصوصاً أن الإجراءات الجديدة التي أعلن سانشيز عنها أمس، قد تتضمن اعتبار نتنياهو ووزرائه أشخاصاً غير مرغوب فيهم بإسبانيا، ما يساهم في جعل المنظومة السياسية الحاكمة في تل أبيب تشعر بالعزلة.
واستدعت إسبانيا، أمس، سفيرتها في تل أبيب، آنا سولومون، للتشاور، بعدما اتهمت وزارة الخارجية الإسرائيلية أمس، مدريد، باتخاذ إجراءات معادية للسامية.
إسبانيا لا ترحب بحكومة الاحتلال
ويوم السبت الماضي، أكدت صحيفة إل باييس الإسبانية أن سانشيز يتجه لفرض إجراءات عقابية إضافية على دولة الاحتلال. وبحسب صحيفة “ذا تايمز أوف إسرائيل”، أول من أمس الأحد، نقلاً عن “إل باييس”، فإن مدريد تخطط للموافقة على فرض حظر تسليح كامل وفوري على دولة الاحتلال، وهو ما من المقرّر أن يوافق عليه مجلس الوزراء الإسباني اليوم الثلاثاء خلال اجتماع له، وربما “إعلان نتنياهو ووزراء آخرين أشخاصاً غير مرغوب فيهم في إسبانيا”. وبحسب الصحيفة الإسبانية، فإن الحكومة في مدريد تعمل لفرض حظر كامل على كل صفقات السلاح أو المعدات التكنولوجية المباشرة أو غير المباشرة مع القطاع العسكري العام والخاص في دولة الاحتلال.
اعترفت إسبانيا بفلسطين ودعمت الدعوى في محكمة العدل
وبالفعل، أكد رئيس الحكومة الإسبانية ذلك يوم أمس، معلناً عن سلسلة إجراءات “لوضع حد للإبادة الجماعية في غزة”، تشمل فرض حظر على مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل ومنع السفن التي تحمل الوقود للجيش الإسرائيلي من استخدام موانئ البلاد. وفي بيان متلفز، قال سانشيز إن حكومته “قررت اتخاذ خطوات جديدة وتنفيذ تسعة إجراءات إضافية فورية لوضع حد للإبادة الجماعية في غزة وملاحقة مرتكبيها ودعم السكّان الفلسطينيين”. وستمنع مدريد، بموجب ذلك، السفن والطائرات المتجهة إلى الأراضي المحتلة والتي تحمل أسلحة لجيش الاحتلال من الرسو في الموانئ الإسبانية أو دخول المجال الجوي الإسباني. وأضاف سانشيز أن حكومته ستزيد مساعداتها للسلطة الفلسطينية ووكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) عشرة ملايين يورو، وستفرض حظراً على السلع المصنعة في مستوطنات إسرائيلية.
وستمنع إسبانيا أيضاً أي شخص يشارك بشكل مباشر في الإبادة من دخول البلاد، وفق سانشيز، دون ذكر أسماء. وأضاف: “نأمل بأن تُشكّل هذه الإجراءات مزيداً من الضغط على نتنياهو وحكومته لتخفيف بعض المعاناة التي يتكبدها الشعب الفلسطيني”، مشدداً على أن ما تفعله إسرائيل في غزة “ليس دفاعاً عن النفس، بل القضاء على شعب أعزل”، مؤكداً أنها “تقصف المستشفيات وتقتل الناس بالتجويع”. ولم تتضح جميع الإجراءات التسعة، والتي ردّ عليها وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر أمس، باعتبار أن سانشيز يحاول “صرف الانتباه داخلياً عن فضائح الفساد التي تلاحقه”، واصفاً إجراءاته بالمعادية للسامية. كما منعت إسرائيل وزيرة العمل الإسبانية يولاندا دياز، ووزيرة الشباب سيرا ليغو، من دخول إسرائيل. وتنتمي ليغو إلى حركة “اليسار الموحد”، فيما أسّست دياز تحالف “سومار” الشريك اليساري المتشدّد المتحالف مع حزب سانشيز، العمّال الإسباني. وتعدّ دياز، التي شغلت منصب نائبة رئيس الحكومة، من الأصوات المتشددة في معاقبة إسرائيل داخل الحكومة، وهي تدعو باستمرار الاتحاد الأوروبي لوقف العمل باتفاق التجارة مع دولة الاحتلال.
حظر نافذ وسريع
وبحسب “إل باييس”، فإن مدريد تخطط لجعل الحظر الكامل نافذاً سريعاً، عبر مرسوم ملكي، مستمد من مشروع قانون قدّمه ائتلاف سومار العام الماضي للبرلمان. وأكدت دياز أن ائتلافها يعمل مع الحزب الحاكم على “حزمة إجراءات لقطع العلاقات مع نظام المجرم نتنياهو”، وتعليق كل العلاقات التجارية دفعة واحدة، وإعلان نتنياهو ووزراء الأمن يسرائيل كاتس والمالية بتسلئيل سموتريتش والأمن القومي إيتمار بن غفير أشخاصاً غير مرغوب فيهم بإسبانيا، وذلك “لتحريضهم على الإبادة، والتجويع والتطهير العرقي”.
وكانت إسبانيا قد أعلنت في أيار/ أيار 2024، مع النرويج وأيرلندا، الاعتراف بدولة فلسطينية، ودعمت الدعوى المرفوعة ضد دولة الاحتلال في محكمة العدل الدولية، وأعلنت في حزيران/ حزيران 2024، تقديم طلب رسمي للانضمام إلى مجريات القضية في شأن موضوع الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال في حقّ أهل غزة. وتضغط إسبانيا على الاتحاد الأوروبي لتعليق اتفاقية التجارة مع إسرائيل، كما تضغط على دول أوروبية لفرض حظر سلاح. لكن حظر السلاح بين مدريد وتل أبيب ظلّ مسألة إشكالية، إذ بينما علّقت مدريد العمل بعدد من الصفقات، إلا أن الخطوة ظلّت رمزية، وقد كشفت الجماعات الحقوقية والداعمة لفلسطين والإعلام عن ذلك تباعاً. فمثلاً، في شباط/ شباط الماضي، كشف الإعلام الإسباني عن أنه رغم تعليق مدريد توريدها الأسلحة الإسبانية إلى إسرائيل، فإن حكومة سانشيز سمحت منذ كانون الثاني/ كانون الثاني 2024، بنقل أكثر من 60 ألف قطعة من المعدات العسكرية (منصات إطلاق صواريخ، قنابل يدوية…)، العديد منها أميركية الصنع، بالمرور إلى الأراضي المحتلة عبر مطاراتها، وناشدت المقررة الأممية الخاصة المعنية بفلسطين فرانشيسكا ألبانيز، في شباط الماضي، الحكومة الإسبانية حظر كل الرحلات العسكرية لدولة الاحتلال. وتحت وطأة الضغط من الائتلاف اليساري في الحكومة، ورغم مقاومة وزارة الداخلية، اضطر سانشيز في إبريل/ نيسان 2025، لوقف العمل بصفقة مثيرة للجدل لشراء أسلحة من إسرائيل بقيمة 7.5 ملايين دولار. لكن بحسب موقع “eu reports”، في الثامن من آب/ آب الماضي، فإنه منذ بداية العدوان في 2023، استوردت إسبانيا من إسرائيل أسلحة بقيمة 54 مليون يورو، نقلاً عن تقرير حديث لمركز ديلاس لدراسات السلام. وقال الموقع إن البيانات من منصة “داتا كوميكس”، تظهر أنه بين شباط وأيار الماضيين، فإن إسبانيا تقف على رأس لائحة الدول في الاتحاد الأوروبي المستوردة للأسلحة الإسرائيلية.
حظر السلاح بين مدريد وتل أبيب ظلّ مسألة إشكالية
وكانت قد سبقت إعلان سانشيز، أمس، تظاهرة ضخمة خرجت في مدريد، السبت الماضي، نادى فيها المتظاهرون بأسماء الأطفال الشهداء في غزة، كما نظّمت مدرّسات في مناطق عدة في البلاد وقفات بعنوان “التربية ضد الإبادة” مع بدء العام الدراسي، فيما عطّل المتظاهرون الداعمون لفلسطين سباق الدراجات في مدينة بلباو، شمال وسط البلاد، الأسبوع الماضي. وكان القضاء الإسباني قد فتح في تموز/ تموز الماضي تحقيقاً جنائياً ضد نتنياهو وساعر ومسؤولين عسكريين إسرائيليين، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، على خلفية الهجوم على سفينة الدعم “مادلين” في حزيران الماضي.
ويميل الرأي العام في إسبانيا لدعم القضية الفلسطينية، وكانت إسبانيا من آخر الدول الأوروبية التي اعترفت بإسرائيل في عام 1986، في ظلّ تفضيلها تاريخياً تطوير العلاقات مع الدول العربية، لا سيما بعد العزلة التي عاشتها إثر الحرب العالمية الثانية. لكن حكومة اليمين السابقة بقيادة خوسيه ماريا أزنار (1996 2004)، الذي تميّز عهده بقربه من السياسات الأميركية، طوّر العلاقات مع دولة الاحتلال، علماً أن اليمين الإسباني معارض بشدّة للابتعاد عن إسرائيل، ويحذر اليمين المتشدد المعادي للمهاجرين (حزب فوكس خصوصاً) من مغبة عدم استيراد التكنولوجيا العسكرية من دولة الاحتلال على أمن البلاد. ويتهم اليسار الإسباني وزارة الداخلية بمخالفة قرار الحكومة في ربيع 2024، بوقف استيراد الأسلحة من إسرائيل.