كما أتاح فيلمها “صوت هند رجب” فرصة نادرة لعرض “صورة الضحية” الفلسطينية أمام العالم، فإن الاستقبال غير المسبوق للفيلم في مهرجان فينيسيا السينمائي يتيح إعادة اكتشاف المخرجة التونسية كوثر بن هنية التي أنجزت أفلاماً أخرى أيضاً، واستُقبلت غير مرة باحتفاء كبير في مهرجانات السينما العالمية.
ومن شاهد “الرجل الذي باع ظهره” الذي رُشّح لجائزة أوسكار أفضل فيلم عن فئة الأفلام الأجنبية عام 2021، قد يذهب به الظن إلى أننا إزاء صعود مخرجة بمواصفات هوليوود، لكن من شاهد أفلامها الأخرى، ومنها “بنات ألفة” الذي حققته عام 2023، سيتأكد من أصالة هواجسها الفنية وقوتها، وهي تتجاوز معايير السوق وإكراهات شركات الإنتاج، وأن انعطافتها نحو متطلبات السوق في “الرجل الذي باع ظهره” إذا صحّت، كانت نوعاً من التسوية الصعبة بين الفن والإكراهات، وأنها كانت حتى في هذه تسعى لتغليب هواجسها وقضاياها ومقارباتها، وغالباً ما تنجح.
في “بنات ألفة” يحضر التجريب العالي رفيع المستوى، الذي يمزج ما بين “الروائي” و”الوثائقي” في مقاربة حياة امرأة تونسية فقيرة تفقد اثنتين من بناتها اللتين تلتحقان بـ”داعش” منتصف العقد الماضي.
ثمة ما هو إعادة إنتاج للحكاية، وصناعة فيلم بممثلين هم شخوص الحكاية نفسها، خصوصاً الأم ألفة وابنتيها الصغيرتين، توازياً مع ممثلين حقيقيين، منهم هند صبري التي تؤدي دور الأم ألفة تناوباً، وأحياناً تزامناً مع وجود ألفة الحقيقية في الفيلم.
يبدو الفيلم كأنه ورشة، أو بروفة، أو جلسات عصف ذهني خلال التصوير، ما يجعله توثيقياً إلى حد ما، ونوعاً من “مسرحة الألم” خلال إعادة إنتاجه فنياً، ما يضاعف أهمية الفيلم سينمائياً.
يبدو العمل كأنه يكسر القواعد وهو يقارب موضوعه “الصغير” للوهلة الأولى، الكبير في حقيقته، والذي من خلاله نرصد عذابات المرأة في المجتمعات العربية، ومآسي صعود حركات التطرف الديني بعد ثورات الربيع العربي، وكيف أن التشدد كان نوعاً من الهروب الكبير والقاسي لهذا المجتمعات من راهنها البائس، وعلامةً على اليأس أكثر منه على التطلع نحو المستقبل.
المرأة القوية التي ترفض “إعلان العذرية” في ليلة عرسها، والرضوخ للرجل، تنتهي منكسرة، بروح حزينة وهي تروي سيرة حياتها مع بناتها الأربع، في تونس زين العابدين بن علي وما بعدها، من دون أن تكون مقاربة بن هنية لعلاقة ما هو عام بالخاص، متعسفة أو مؤدلجة وإكراهية، بل بانسياب حافظ فيه الخاص والشخصي على مساره وهو يتحرك في الزوايا السوداء المعتمة والمسكوت عنها، في المجتمعات العربية.
وعلى نحو ما، يبدو الفيلم مغامرة سينمائية، بهواجس فنية بالدرجة الأولى، من دون أن يفقد قضيته أو موضوعه، بل إن هذه المغامرة الفنية تتكشف عن كونها المعادل الفني الحقيقي لموضوعها؛ فنساء في بيئات قاسية كالتي نعرف، ما كان ممكناً تناول مصائرهن الحزينة وواقعهن المعقد والمنسي إلا بخليط أساليب، يتجاور فيها “الروائي” مع “الوثائقي” والمشهديات المسرحية معاً.
كأن العالم كله في غرفة مغلقة (التصوير غالباً داخل البيت)، لكن الغرفة هي العالم، هي المرأة التي يغيب الرجل من حياتها، ولاحقاً من حياة بناتها، فتكافح لتعيل أسرتها الصغيرة، تعمل خادمة وتبحث خلال ذلك عن أي نافذة متاحة لتطل على الفرح المفقود في عمرها، وإذ تجدها تُشرعها أمام الشمس، وأمام كاميرا بن هنية التي تُخاطَب في الفيلم، فتحضر باسمها أو عبر هند صبري التي تؤدي دورها بعبقرية، خصوصاً عندما تتبادل الأدوار مع الشخصية التي تؤديها (ألفة)، أو تنفصل عنها وتحاورها، كأنما هما احتمالات لنساء أخريات، في غرف أخرى هي العالم في نهاية المطاف.
بهذا، نكون أمام رؤية وليس مجرد احتراف، لأن الدراما الحقيقية التي أهدرتها هوليوود في بناء المشهديات والذروات الدرامية، تستطيع أن تجد نفسها أيضاً في قصص الناس العاديين الذين يعيشون في غرفهم الصغيرة، وداخل مآسيهم الكبيرة، التي تعلو حولها الجدران.
ما فعلته بن هنية أنها هدّمت جداراً، فإذا خلفه ألفة، وأصغت إلى نداء بعيد، فإذا هو صوت هند رجب، وعليه استحقت التصفيق لأربع وعشرين دقيقة بلا توقف في فينيسيا السينمائي.