تترقب فرنسا اليوم الاثنين 8 أيلول/أيلول 2025 تصويت الجمعية الوطنية على الثقة بحكومة رئيس الوزراء فرنسوا بايرو، في لحظة حاسمة قد تحدد ليس مصير الحكومة فقط، بل مستقبل ولاية الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه. ويأتي هذا الاستحقاق في ظل أزمة ديون غير مسبوقة، إذ بلغ الدَّين العام منتصف حزيران/حزيران 2025 نحو 3.345 تريليونات يورو (113.9% من الناتج المحلي الإجمالي)، بزيادة 185 مليار يورو خلال عام واحد فقط، فيما يصر بايرو على تمرير خطة تقشفية ضخمة بقيمة 44 مليار يورو رغم المعارضة الواسعة من اليمين واليسار والنقابات العمالية. وكشفت “نيويورك تايمز”، أنه في حال رفض البرلمان هذه الخطة خلال التصويت المرتقب، فإن بايرو سيضطر إلى الاستقالة؛ ما يجعل ماكرون في موقف صعب لتعيين رئيس وزراء جديد قادر على معالجة العجز المالي. وواجه ماكرون أزمة حادة، بعد إعلان بايرو وضع خطة لإصلاح الميزانية تشمل خفض الإنفاق العام بـ44 مليار يورو وزيادة الضرائب.
وبموازاة الاضطرابات الاقتصادية والسياسية تستعد فرنسا لموجة احتجاجات ومظاهرات وإضرابات ومقاطعة واسعة مع إعلان حركة “لنغلق كل شيء” الدعوة إلى شل البلاد في الـ10 من أيلول الحالي احتجاجاً على مشروع الميزانية المقترح من رئيس الوزراء فرانسوا بايرو، الذي يواجه تهديداً بسقوط حكومته. فالنقابات، وعلى رأسها الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للشغل (CFDT)، أعلنت تنظيم يوم تعبئة وطني بعد غدا الأربعاء تحت شعار “لنشل كل شيء”، معتبرة أن الخطة تضرب المتقاعدين والقطاع الصحي. ويعيد التحرك إلى الأذهان مظاهرات “السترات الصفراء” التي انطلقت في فرنسا عام 2018 ضد زيادة أسعار الوقود التي استقطبت عشرات الآلاف من المحتجين الذين انتابهم شعور بغياب العدالة الاقتصادية. وفي البرلمان، أعلنت كتل يسارية ويمينية رفضها منح الثقة، ما يجعل حكومة بايرو أمام تحد شبه مستحيل. ويبدو أن مشروع الموازنة الذي قدمه بايرو أيقظ شعوراً بالظلم والغبن الاجتماعي لدى فئة من الفرنسيين الذين يعانون منذ سنوات من تضخم مرتفع للأسعار وتراجع القدرة الشرائية.
من جانبه، حاول وزير المالية إريك لومبارد تهدئة المخاوف عبر مقابلة مع صحيفة فايننشال تايمز في 3 أيلول الحالي، مؤكداً أن سقوط حكومة بايرو سيجعل خطة خفض العجز أقل طموحاً، لكنه شدد على إمكانية تمرير ميزانية قبل نهاية العام، سواء بقي بايرو أو جاء خلفه. وقال الخبير المالي الفرنسي ألان أتاسي، مدير بنك الاستثمار (N.M Capital & Co) في باريس لـ”العربي الجديد”: “في عهد بايرو، جاءت خطة تقشفية بـ44 مليار يورو عبر إلغاء عطلات ورفع ضرائب، لكن غياب الحوار الاجتماعي واستهداف الفئات الوسطى والفقيرة فجّرا رفضاً شعبياً واسعاً”.
سقوط بايرو شعبياً
وعلى المستوى العام، أظهر استطلاع لمعهد إيفوب لصالح صحيفة جورنال دو ديمانش أن رضا الفرنسيين عن ماكرون لا يتجاوز 19%، بينما بلغت نسبة عدم الرضا عن بايرو 82%، وهو مستوى قياسي تاريخي لا يضاهيه إلا ما حققته رئيسة الحكومة إديث كريسون عام 1991 في عهد ميتران، واستطلاع آخر لمعهد أودوكسا كشف أن 51% من الفرنسيين يطالبون باستقالة ماكرون نفسه.
وفي هذا السياق، قال الخبير الاقتصادي، وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة السوربون، كميل الساري لـ”العربي الجديد”: “كان من الممكن تمرير ميزانيات إصلاحية رغم ما تحمله من تضحيات، شرط أن ترفق بخطة واضحة للحد من المديونية. لكن في ظل غياب أغلبية واضحة، أصبح تمرير أي ميزانية أمراً صعباً”. أما الخبير الاقتصادي الفرنسي باسكال داليما، كبير المحللين في شركة بزنيس نوليدج مانجمنت كونسلتينغ للاستشارات، فقال لـ”العربي الجديد”: “الاقتصاد بات الحكم الأول والأخير في مصير الحكومات الفرنسية”.
بارنييه… الميزانية التي أطاحت الحكومة
في 5 أيلول 2024 لجأ ماكرون إلى شخصية أوروبية وازنة، فعين ميشيل بارنييه رئيساً للحكومة، معولاً على خبرته الطويلة في بروكسل ومكانته مفاوضاً رئيسياً للاتحاد الأوروبي في ملف بريكست. غير أن هذه الخبرة لم تحم حكومته من امتحان قاتل: “مشروع قانون المالية لعام 2025”. وفي 27 أيلول 2024، قدمت الحكومة مشروع الميزانية للبرلمان ليكشف عن عجز يتجاوز 5.8% من الناتج المحلي الإجمالي. وأكد تقرير ديوان المحاسبة في تشرين الأول/تشرين الأول الماضي أن الحسابات العامة تفتقر إلى مسار قابل للتصحيح، فيما حذرت وكالة فيتش في 20 تشرين الأول الماضي من أن فشل تمرير الميزانية سيقوض مصداقية فرنسا مالياً. وبدورها لوحت وكالة موديز بمراجعة سلبية قد تضعف مكانة فرنسا في الأسواق. إزاء ذلك، لجأ بارنييه إلى المادة 49.3 من الدستور لتمرير الميزانية دون تصويت، لكن النتيجة كانت مواجهة سياسية مفتوحة. وفي 4 كانون الأول/كانون الأول 2024، صوت البرلمان على مذكرة حجب ثقة بـ331 صوتاً، ما أدى إلى انهيار الحكومة. وفي اليوم التالي قدم بارنييه استقالته بعد أقل من مئة يوم، لتسجل حكومته كأقصر حكومات الجمهورية الخامسة عمراً.
أتال… أصغر رئيس وزراء يسقط بالأرقام
في 11 كانون الثاني/كانون الثاني 2024، عين ماكرون أصغر رئيس وزراء في تاريخ الجمهورية الخامسة، غابرييل أتال، لكنه سرعان ما وجد نفسه رهينة الأرقام. ففي آذار/آذار 2024 أكد المعهد الفرنسي للإحصاء أن الدين العام ارتفع إلى 112.5% من الناتج المحلي، فيما استقر العجز عند 5.5%. وفي تموز/تموز 2024، شددت المفوضية الأوروبية على ضرورة خفض النفقات بما لا يقل عن 20 مليار يورو. وحذر باتريك أرتوس، كبير المحللين في بنك ناتيكسيس، في مقابلة مع صحيفة ليزيكو من أن “الأسواق لم تعد تثق بقدرة فرنسا على إصلاح ماليتها، أي رئيس حكومة سيصبح رهينة لهذه الأرقام”. لم تفلح صورة أتال الشابة في مواجهة هذه الضغوط. فاستطلاع إيفوب لصالح باريس ماتش في أيلول 2024 أظهر أن شعبيته لم تتجاوز 22%، وهو أدنى مستوى لرئيس وزراء في عهد ماكرون. وبعد ثمانية أشهر فقط، قدم استقالته عقب الانتخابات المبكرة التي تلت حل البرلمان في حزيران/حزيران 2024. وقال الخبير باسكال داليما لـ”العربي الجديد”، معلقاً على تلك الأرقام: “الدين والعجز ليسا مجرد أرقام، بل قيود تستنزف النمو وتقلص هوامش المناورة، خصوصاً في الاستثمارات المستقبلية”.
بورن… ضريبة التقاعد التي أشعلت الشارع
بعد فوز ماكرون بولاية ثانية في إبريل/نيسان 2022، أحدث قطيعة رمزية بتعيين إليزابيث بورن في 16 أيار/أيار 2022 لتكون ثاني امرأة تتولى رئاسة الحكومة، لكنها وجدت نفسها سريعاً في مواجهة ملف إصلاح التقاعد. وفي كانون الثاني 2023 أعلنت الحكومة رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً. فجرت الخطوة احتجاجات واسعة، إذ شارك 1.12 مليون متظاهر في 19 كانون الثاني، وبلغت التعبئة ذروتها في 7 آذار 2023 مع 1.28 مليون متظاهر وفق الداخلية (3.5 ملايين وفق النقابات). لكن الإصلاح سقط سياسياً قبل دخوله حيز التنفيذ. ففي كانون الأول 2023، كشف استطلاع لمعهد إيفوب لصالح “لوفيغارو” أن 67% من الفرنسيين يرفضون الإصلاح و54% يطالبون باستقالة الحكومة. وتحت ضغط الشارع، استقالت بورن في 8 كانون الثاني 2024 بعد 20 شهراً فقط. وقال الخبير كميل الساري لـ”العربي الجديد”: “فشل إصلاح التقاعد كان دليلاً على أن أي إصلاح مالي في فرنسا محكوم عليه بالاصطدام بالشارع، في ظاهرة تعود إلى إرث الثورة الفرنسية”.
كاستكس… سياسة “مهما كلف الأمر”
مع اجتياح جائحة كوفيد-19، تبنت حكومة جان كاستكس سياسة “مهما كلف الأمر”، حيث التزمت الدولة توظيف كل الوسائل المالية لحماية المواطنين. النتيجة كانت قفزة الدَّين العام من 99.1% في 2019 إلى 111.1% في 2020، ثم 115.2% في 2021. وقال الخبير الاقتصادي كميل الساري لـ”العربي الجديد”: “المساعدات التي قدمتها الحكومة خلال الجائحة كانت استثنائية وفاقت ما منحته باقي الدول، إلى حد أن أرباب العمل عبروا عن رضاهم الكبير”، لكنه أضاف: “الأخطاء اللاحقة مثل دعم أسعار الوقود بعد حرب أوكرانيا، وانحرافات نظام المساعدات الضريبية التي استفاد منها الأثرياء والشركات وحتى بعض العاطلين، زادت من شعور بعدم العدالة وأضعفت فعالية السياسات”. وفي كانون الثاني 2022، نبه صندوق النقد الدولي في تقريره إلى أن الاعتماد المفرط على التمويل سيقيد الحكومات المقبلة. ورغم بقاء حكومة كاستكس حتى نهاية الولاية الأولى، فإنها خلفت اقتصاداً مثقلاً بالديون شكل قاعدة سقوط خلفائها.
فيليب… بداية الغضب مع “السترات الصفراء”
مع بداية عهد ماكرون، عين إدوار فيليب في أيار 2017 رئيساً لأول حكومة، مهمتها تنفيذ إصلاحات ليبرالية شملت تحرير سوق العمل وخفض ضرائب رؤوس الأموال وفرض ضريبة بيئية على الوقود، لكن تقرير ديوان المحاسبة في حزيران 2018 حذر من أن هذه الإصلاحات “غير كافية للسيطرة على العجز الهيكلي”. وفي تشرين الثاني/تشرين الثاني 2018 انفجرت أزمة “السترات الصفراء” إثر إعلان زيادة ضريبة الوقود. وربط تقرير المفوضية الأوروبية عن فرنسا (شباط/شباط 2019) هذه الاحتجاجات بمخاوف أوسع حول القدرة الشرائية والعدالة الاجتماعية، معتبراً أنها لم تكن رفضاً لزيادة ضريبية فحسب، بل تجسيداً لإحباط اجتماعي عميق.
ورغم تراجع الحكومة جزئياً عن بعض الإجراءات، ارتفع العجز إلى 3.1% عام 2019 (كان 2.6% في 2017)، ما دفع المفوضية الأوروبية إلى إعادة فرنسا تحت مراقبة “العجز المفرط”، محذرة من أنها “تخاطر بعدم التزام القواعد الأوروبية”. ومع تفاقم الغضب الشعبي وتآكل الثقة، قدم فيليب استقالته في 3 تموز 2020. ومنذ 2017، شهدت فرنسا تعاقب ثماني حكومات بمعدل لم يتجاوز 400 يوم لكل منها، جميعها سقطت أمام جدار الدَّين والعجز وضعف النمو. وماكرون الذي قدم نفسه رئيساً إصلاحياً قادماً من عالم المال، وجد أن الاقتصاد لا يرحم، وأن الأسواق والأرقام أقوى من أي خطاب سياسي. وما يجري في فرنسا لم يعد أزمة داخلية فقط، بل إنذاراً أوروبياً وعالمياً بأن الديمقراطيات الحديثة باتت رهينة الأرقام والمعايير المالية أكثر من أي وقت مضى.