يجب أن نقاوم حلم “إسرائيل الكبرى”، الذي أصبح مشروعاً قيد التحقيق، لأنه لا بديل عن أن يواجهه الفلسطينيون وكل العرب بمختلف مذاهبهم وإثنياتهم.. فالجميع مهدّدون، ومحاباة إسرائيل لن تغير مواقف رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، والإدارة الأميركية بقيادة الرئيس دونالد ترامب. …. والمسألة أعقد من مواجهة الاثنين، بل هي مواجهة إسرائيل وكل من يدعمها، من دول وشركات كبرى، ولا بديل سوى المواجهة.
ليس الحديث هنا بالضرورة عن مواجهة عسكرية، وإنما عن مقاومة فكرة الاستسلام والإذعان أولاً، وهذا ينطبق على جميع الدول العربية، لكن خط المواجهة كان وسيبقى الوعي الوطني، فهو البداية، وعلى الجميع أن يتحدّث عن الخطر ويراه ماثلا أمامه. وعلينا أن نعي أنه بدون تمثيل موحد وقوي للشعب الفلسطيني، تحت مظلة منظّمة التحرير فإن الخطر يهدد وجودنا، خصوصاً أن الانقسام والتنافس على سلطة، ناقصة السيادة والمضمون، ما زال يتسيد الموقف. إذ نرى تداعيات لسياسات خطيرة، منها إفراغ منظمة التحرير من مضمونها لصالح سلطة، بل نخب مسيطرة تجد في مهادنة إسرائيل طريق خلاصها، ما دمّر دور المنظمة، وجعلها مرتهنة للشروط الإسرائيلية والأميركية، التي تمنع استقلال الشعب الفلسطيني وحقّه في تقرير مصيره.
لن أخوض في اتفاقية أوسلو، وقد عارضتُها في حينها، لكن من الضروري التذكير بأن عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وأحد مؤسسي حركة فتح، فاروق القدومي، الذي عارض “أوسلو”، اقترح حماية المنظمة من الشروط الإسرائيلية، وأن تكون المنظمة المرجعية الحقيقية للقرارات المصيرية، أو التي قد تؤثر على تحرّر الشعب الفلسطيني من الاحتلال والحفاظ على حقوقه التاريخية والشرعية. لكن ما حدث عكس ذلك، وتحديداً بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات، إذ جرى تهميش (وتدمير) الجسم الوحيد الذي يمثل جميع الفلسطينيين في الخارج والداخل والمعترف به دولياً. وما نراه اليوم جزء كبير من تداعيات غياب هذا الجسم، مهما كانت نقاط ضعفه، على تشتّت الساحة الفلسطينية وتفتيت الهوية الفلسطينية.
وصلت إسرائيل إلى مرحلة حكم المستوطنين، فالحكومة الحالية هي حكومة المستوطنين، وسموتريتش وبن غفير ليسا النشاز، وإنما هما إسرائيل
هناك محاولات جادّة لإعادة بناء المنظّمة، وهذه مهمّة ستحاربها معظم الأنظمة العربية، لكن النهوض الفلسطيني والعالمي نصرةً لفلسطين يعيد توحيد الصف الفلسطيني، لكن قبل أن تنجح محاولة إعادة بناء المنظّمة يجب تجاوز الانقسام وخلاف الفصائل والتنافس بين حركتي حماس وفتح. وإذا أردنا الصراحة، فإن حرب الإبادة في غزة، والضم التدريجي للضفة الغربية عمّقا الشرخ في الداخل، بدلا من رأبه، فالناس أصبحوا يريدون النجاة من موت وتهجير، وأصبح هناك أسباب جديدة للتجزئة، فتحت عذاب الحرب نسمع أصواتاً كثيرة في غزّة المنكوبة تصرخ ضد حركة حماس، لما يعتبره هؤلاء “قصر نظر للحركة” وخوضها مغامرة “غير محسوبة”، إلى مؤيد للسلطة الفلسطينية، ومن يرفض جميع الفصائل بدون استثناء لأسباب مفهومة، التي أضعفتها السلطة بما فيها حركة فتح، إضافة إلى عدم قدرتها على التجديد وجذب الأجيال الجديدة.
تتطلب المرحلة الوحدة، أو الحد الأدنى، وغياب قيادة قوية يعمّق الشعور بعدم الجدوى والخذلان، فيصبح همّ المرء أن يبقى حياً ويكون له مستقبل يكاد يختفي أمامه. لا بد من بناء إجماع على أولويات المرحلة، وأن يفهم الجميع أنهم جميعاً مستهدفون، فلا شماتة في استشهاد قيادات “حماس”. حال الشماتة تقرّب من الاستسلام لما تريده إسرائيل، وهي سابقة خطيرة، ومهما كان نقدنا “حماس”، إلى حد القول أن ليس لها رؤية أو استراتيجية، فإن تشويه من يقاوم بشجاعة يقترب من الخيانة المعنوية والفكرية، وبخاصة بين المثقفين.
إنشاء كينونة فلسطينية بالشروط الإسرائيلية يحوّلها إلى “بانتوستانات” شبيهة بالتي أنشأها نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا
مفهومٌ رؤية غزّيين غاضبين من “حماس” أو فصيل وهم يشاهدون حياتهم وحياة عائلاتهم ومستقبلهم يذوي أمام أبصارهم وأبصار العالم، لكن المخيف أن يُوظّف مثقفون وسياسيون لشيطنة المقاومة وترويج الاستسلام بقصد أو بدونه. ومفهومٌ أيضاً، إلى درجة ما، جزء من السخرية من حجب تأشيرة دخول الرئيس الفلسطيني محمود عباس أميركا لمنعه من الحديث أمام الأمم المتحدة والمشاركة في اجتماعٍ تعترف فيه دول أوروبية ولأول مرة بدولة فلسطين. لكن عدم الوعي بخطر خطّة كهذه والتي لا تخص عباس وحده، وإنما كل الشعب الفلسطيني، هو التخندق أو السذاجة التي تعمي البصيرة.
تهدف الإدارة الأميركية إلى منع أي نقاش لحقوق الشعب الفلسطيني التاريخية المشروعة، وإجهاض التضامن المتصاعد للشعب الفلسطيني وحماية إسرائيل من العداء المتنامي ضدها. والاعتراف الدولي غير المسبوق بدولة فلسطين المزمع خلال الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة يربك إسرائيل وأميركا، ليس لأن الاعتراف سيؤدّي إلى دولة فلسطينية حقيقية، بل لأنه إدانة دولية لمشروع نتنياهو، ومن خلفِه ترامب، لضم الضفة الغربية وتهجير الفلسطينيين وإفراغ قطاع غزّة لإتاحة الطريق لمشروع ترامب لإنشاء ما يسمّيه “ريفييرا غزّة” على أشلاء أهلها خالية من الفلسطينيين، فيما يعلن المستوطنون أن لديهم مشروعاً يحمل التسمية نفسها لضمان انتقال مجموعات من المستوطنين إلى غزّة في محاولة للاندماج بمشروع ترامب وإيجاد واقع جديد يجعل من غزّة جزءاً من إسرائيل.
يرفض الفلسطيني الوعود بدولة فلسطينية، لأسباب مشروعة، فإنشاء كينونة فلسطينية بالشروط الإسرائيلية يحوّلها إلى “بانتوستانات” شبيهة بالتي أنشأها نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، في وضعٍ في أحسن أحواله شبيه بالعرض”السخي” الذي رفضه عرفات بحقّ في 2001، أي إقامة كينونة ممزقة منزوعة السلاح تفتقر إلى السيادة، مقابل التخلّي عن حق العودة والحقوق المشروعة للفلسطينيين كافة. وأنا على يقين بأن بعض الدول الأوروبية، وليس جميعها، باعترافها بدولة فلسطين، تتحدث عن كينونة غير مستقلة، لكن هذا لا يعني أن الاجتماع المرتقب غير مهم، ولذلك لا تريده واشنطن، فإسرائيل لم تعد ترضى، وإن كنت أعتقد أنها لم تكن صادقة بالقبول حتى بكينونة فلسطينية ممزّقة، بل هي ماضية في تدمير غزّة، وضم الضفة من خلال ترويع الجيش والمستوطنين للقرى والمخيمات والمدن الفلسطينية وفي توسيع المستوطنات وتمزيق الضفة الغربية، فهي لا تقبل بكينونة يحكمها نظام الأبارتهايد الصهيوني. إذ وصلت إسرائيل إلى مرحلة حكم المستوطنين، فالحكومة الحالية هي حكومة المستوطنين، وسموتريتش وبن غفير ليسا النشاز، وإنما هما إسرائيل.
يقرّ عبّاس بنيّة إسرائيل تدمير فلسطين، لكن عليه أن يتخلى أولاً عن شيطنة المقاومة، والكفّ عن التماهي مع الشروط الأميركية
أضم صوتي إلى المطالبين بنقل اجتماع مجلس الأمن إلى جنيف، لكن الأهم أن يحدّد الفلسطينيون أولوياتهم وموقفهم. صحيح أن غياب الثقة بالسلطة الفلسطينية يضع أغلبية الفلسطينيين في موقع رفض أي شيء تقوم به والسخرية من اجتماع نيويورك، وتصريحات عبّاس تعمق عدم الثقة. إذ كان حريّاً به الدعوة إلى اجتماع فلسطيني لإعلان موقف موحّد بدل الانشغال بإنقاذ السلطة. لكن على الجميع تحمّل المسؤولية، إذ يجب عقد اجتماع فلسطيني وبثّ الأولويات إلى العالم، والاستماع إلى فلسطينيي الخارج وقطاع غزّة.
بصراحة، أولويات إنقاذ فلسطين في هذه اللحظة واضحة من كسر حصار غزّة ووقف الإبادة، إلى الإعلان بوضوح عن الالتزام بالحقوق الفلسطينية، وبأن عبّاس لا يستطيع التفريط بالحقوق الفلسطينية، ووضع العالم أمام حقيقة الدولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال واستقلال الشعب الفلسطيني، والإقرار عن قناعة بأن إسرائيل تعادي الجميع، وتريد تدمير الجميع من سلطة و”حماس” والفصائل وجميع الشعب الفلسطيني وفلسطين.
يقرّ محمود عبّاس، في تصريحات له، بنيّة إسرائيل تدمير فلسطين، لكن عليه أن يتخلى أولاً عن شيطنة المقاومة، والكفّ عن التماهي مع الشروط الأميركية، وأن يعرف تماما أن دولة الاحتلال لا تريد السلطة، وقد قلصت مساحة وجود السلطة، وماضية في القضاء عليها. المشكلة أنه يعرف ذلك، لكنه لا يفهم أن هذه مرحلة مقاومة وليست تثبيتاً لنفوذ السلطة، وما يُحتاج عقل مقاوم، ولا يحق له جرّ الفلسطينيين، بقصد أو بدونه، إلى الاستسلام. فهم أم لم يفهم، فروح المقاومة الفلسطينية تجتاح العالم، والشعب الفلسطيني أكبر من أي رئيس أو قائد.