أزمة الحكومة الفرنسية.. حين يُلقى الاقتصاد تحت عجلات السياسة

لم تشتهر دولة أوروبية بسرعة تغيير رؤساء حكوماتها كما اشتهرت إيطاليا، لدرجة أن الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي تهكم على الساسة الإيطاليين في 2010 فعرض عليهم إرسال رئيس حكومة لهم من ليبيا. لكن فرنسا، تسابق الآن جارتها الجنوبية المستقرة ماليا وسياسيا، مع الرحيل الذي بات شبه محسوم لرئيس الحكومة فرانسوا بايرو إثر اقتراع الثقة الذي سيطرحه على حكومته في البرلمان الاثنين المقبل. حين يلقى بايرو هذا المصير، سيكون رابع رئيس حكومة تعرفه فرنسا خلال عام ونصف.

في الحالة الفرنسية يُرمى الاقتصاد تحت عجلات السياسة، فالحاصل أن بايرو قرر المضي قدما إلى هذا المصير، الذي قال إنه لا يندم عليه، بعدما فشل في نيل موافقة البرلمان على برنامجه الاقتصادي، مفضلاً أن يكون رحيله ” صيحة إنذار” توقظ فرنسا. لكن مزيداً من الأخبار السيئة لا تزال تنتظر الفرنسيين، إذ إن خلفه سيتحمل هذا العبء الذي من المستبعد أن يخف قريبا. وتشير تقديرات مالية إلى أن حجم الاقتراض كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي يسير في منحى تصاعدي وقد يرتفع بنسبة 10 نقاط مئوية ليصل إلى 125% بحلول عام 2030، إذا فشل الساسة في الاتفاق على تدابير للسيطرة عليه.

التدابير التي اقترحها بايرو وفشل في تسويقها لنواب البرلمان تتمثل في السعي لتوفير 44 مليار يورو (51 مليار دولار) من خلال خفض الإنفاق وزيادة الضرائب. ويؤكد بايرو أن الخطة ضرورية لخفض عجز ميزانية فرنسا لعام 2026 إلى 4.6% من الناتج المحلي الإجمالي، نزولاً من 5.4% المتوقعة هذا العام. لكن أحزاب المعارضة التي تملك معاً أغلبية المقاعد في الجمعية الوطنية أعلنت أنها ستصوت ضد الاقتراح، ما سيجبر بايرو على الاستقالة، إذا لم يمتنع اليمين المتطرف أو التيارات اليسارية الأكثر تشدداً عن التصويت.

وكما يحدث دائما، لا تبقى الاضطرابات السياسية حبيسة قاعات البرلمان و أروقة الحكم، بل يمتد أثرها على الفور إلى الأسواق، وهو ما ينتاب الحالة الفرنسية بعدما قفز عائد السندات الفرنسية طويلة الأجل إلى أعلى مستوى له منذ آذار الماضي. ويعني ارتفاع عائد السندات لأي حكومة، أي ما يصرفه ملاكها من كوبونات سنوية أو نصف سنوية، انخفاض القيمة الأصلية للسند، وهو أمر يرتبط بالاضطرابات السياسية حينما يقدم ملاك الأوراق المالية على بيعها درءا لمخاطر محتملة مثل زيادة الاستدانة أو تحسبا لحدوث تضخم في البلد المعني، وهو ما يحدث في فرنسا في الوقت الراهن. وقد ارتفعت السندات الفرنسية اليوم الجمعة إلى جانب نظيرتها الألمانية، مواصلة مكاسب مالكيها لليوم الثالث، لتضيق الفجوة بين العائدين إلى 77 نقطة أساس، وهو أدنى مستوى في نحو أسبوعين.

حالة الاقتصاد الفرنسي المتردية، وهو واقع أصاب معظم الاقتصادات الأوروبية في أعقاب جائحة كورونا وعلى وقع الحرب الروسية في أوكرانيا وما خلفته من أزمة في أسعار الطاقة، تتناقض مع الأداء الدبلوماسي للجمهورية الفرنسية ورئيسها على الصعيد العالمي. فالأزمة السياسة مرشحة لأن تتحول إلى أزمة ديون، لا تقل حدة عما حدث مع اليونان وإيطاليا في 2010، ولم يحله سوى التدخل الأوروبي والدولي. فوزير المالية الفرنسي إيريك لومبارد، حذر قبل أسبوع من أن بلاده قد تحتاج إلى مساعدة من صندوق النقد الدولي إذا لم تتم السيطرة على الأزمة. وقال في مقابلة إذاعية ” “لا أستطيع أن أؤكد لكم أن خطر تدخل صندوق النقد الدولي غير موجود.” صحيح أنه تراجع عن هذا “التخويف” لاحقاً في منشور عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقال إن فرنسا “ليست مهددة بتدخل من صندوق النقد الدولي، أو البنك المركزي الأوروبي، أو أي مؤسسة دولية أخرى”، لكن رئيسه – بايرو- أقر بأن “فرنسا مثقلة بالديون” وأن على “الجميع تحمل مسؤولياتهم”.

وتنطوي الخطة المطروحة على تضحيات لا يقبلها الفرنسيون منها، إلغاء يومين من العطل الرسمية السنوية، وزيادة مساهمات الأفراد في نظام التأمين الصحي لتوفير ما يصل إلى 5 مليار يورو سنويا، وتجميد الإنفاق الحكومي في مختلف القطاعات، وعدم زيادة معاشات التقاعد وأجور العاملين في الحكومة والقطاع العام حسب معدل التضخم.

نقابات العمال

كان من الطبيعي أن ترفض نقابات العمال مقترحات بايرو، فثقافة الاحتجاج المتأصلة في الدفاع عن دولة الرفاه لدى الفرنسيين لا يوجد لها مثيل. وقد بدأت سلسلة الإضرابات بإضراب عمال قطاع الكهرباء ومن المحتمل أن تشمل معظم القطاعات في الأسبوع المقبل. فقد تعهدت حركة “الإغلاق التام” بإضرابات شاملة في العاشر من أيلول، كما أن فرنسا على موعد آخر في الثامن عشر بإضرابات جماعية من نقابات العمال رفضا لمخططات خفض الإنفاق وعدم الاستقرار السياسي في البلاد.

رغم ذلك من الصعب تحميل بايرو مسؤولية ما قد يحدث بسبب استقالته، إذ يُحسب له أنه سعى لمصارحة الفرنسيين بحقيقة الوضع المالي لدولتهم العظيمة، وهو أمر تخسره الحكومات دائما تحت ضغط أنصارها، كما خسرت حكومة العمال في بريطانيا تصويتا على الحد من نفقات الرعاية الاجتماعية كان من شأنه أن يوفر للموازنة 6 مليارات دولار.

وما يزيد من تعقيد الموقف الفرنسي هو تلك الفسيفساء التي يجمعها البرلمان الفرنسي (الجمعية الوطنية) فالأحزاب ذات الكتل الكبرى تعتنق سياسات مالية متباينة. فمجموعة الأحزاب اليسارية لا تريد أي تقليص للنفقات الاجتماعية في فرنسا، التي تمثل 65% من الإنفاق العام. ويريد نواب الوسط المتحالفون مع بايرو وماكرون، إلى جانب مجموعة من المحافظين التقليديين، زيادة الإنفاق العسكري لمواجهة غزو روسيا لأوكرانيا دون رفع الضرائب. بينما يقول نواب مارين لوبان اليمينيون المتطرفون إن الحكومة يجب أن تقلص الإنفاق عن طريق خفض الهجرة والمدفوعات إلى الاتحاد الأوروبي.

لكن مراقبين يحملون الرئيس الفرنسي، مسؤولية هذه الأزمة المالية التي تعيشها البلاد، عندما قدم تخفيضات ضريبية شاملة بعد انتخابه لأول مرة في 2017، دون إجراء تخفيضات مماثلة على تكلفة الرعاية الصحية الفرنسية والتعليم والخدمات العامة الأخرى. فألغى ضرائب الثروة والعقارات، وخفّض الضرائب على الشركات، وقدم ضريبة موحدة على أرباح رأس المال. وكانت النتيجة الطبيعية لهذا الإغداق أن فقدت الدولة، فقدت الدولة بحلول 62 مليار يورو من إيرادات الضرائب السنوية بحلول عام 2023، أي ما يعادل 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي.

وأمام ماكرون الآن خيارات محدودة للغاية. يمكنه تعيين رئيس وزراء جديد، لكن فرص أن يحظى أي رئيس حكومة جديد بدعم الأغلبية لإقرار الموازنة تبدو ضئيلة. الفرصة الوحيدة أمامه تتمثل في إبرام صفقة مع الحزب الاشتراكي، لكن تمسك الحزب بزيادة الإنفاق والتراجع عن إصلاحات المعاشات الضريبية وفرض ضرائب على أغنى 1,800 فرنسي لسد العجز قد تجعل من الصفقة أمرا صعبا.

أما إذا لجأ إلى إعادة تمرير الموازنة بدون الإصلاحات، فلن يحل مشكلة العجز. وإقرار موازنة أكثر طموحًا بمرسوم رئاسي قد يدفع أحزاب المعارضة للإطاحة بأي حكومة جديدة انتقامًا. وإذا حلّ ماكرون البرلمان مرة أخرى بعد المحاولة الفاشلة العام الماضي، فإن ذلك قد يؤدي إلى منح القوى اليمينية المتطرفة فرصة للوصول إلى السلطة، والتي لا تمتلك خططًا مالية واقعية. باختصار يراقب السياسيون الفرنسيون اقتصاد بلادهم الذي ألقوه تحت العجلات، وكل يوم يمر يحمل فوائد أكثر على المديونية وعجزا أكبر في الموازنة.