“إنفورماسيون” الدنماركية تسأل: من يقرر ما نراه من صور حرب غزة؟

خصّصت صحيفة إنفورماسيون الدنماركية، في عددها الصادر اليوم الجمعة، جزءاً كبيراً من ملحقها الثقافي لاستكشاف موضوع حساس ومؤلم للغاية: صور الحرب على غزة وكيف تصل إلى الرأي العام الغربي، وتأثيرها عليه، بالإضافة إلى كيفية التحكم أو التأطير في هذه الصور والمعاناة التي تنقلها. جاء الملف الثقافي في أربع صفحات كاملة، ليعكس جهداً معمقاً في استعراض هذه القضية الإعلامية والإنسانية والسياسية.

تُعرف صحيفة إنفورماسيون بأنها من أكثر الصحف توازناً في تغطيتها للقضية الفلسطينية في الدنمارك، حتى قبل بداية حرب الإبادة على غزة في العام 2023. في هذا الملف، تقدم الصحيفة صوراً مؤلمة لأطفال وأمهاتهم في غزة، تظهر حجم المعاناة الإنسانية، خاصةً تلك التي التقطت في ظروف قاسية تعكس هشاشة الفئات المتضررة.

وقد سبق للصحيفة أن تفردت بنشر صور صادمة لجثث وجرحى أطفال من غزة، وأرسلت هذه الصور إلى السياسيين من مختلف الاتجاهات داخل برلمان كوبنهاغن، طالبةً منهم التعليق عليها. وقد عبّر كثير منهم عن استيائهم وغضبهم من دولة الاحتلال الإسرائيلي، بل بكى بعضهم لهول المشاهد، في لحظة نادرة من التأثر العميق أمام مأساة إنسانية بلا تزييف أو مجاملة.

الصورة التي أثارت الجدل: محمد زكريا أيوب المعتوق

يطرح الملف أسئلة جوهرية حول اختيار الصور التي تصل إلينا، ومن يقرر ما يجب أن نراه من مأساة غزة. هل تُعرض الصور كاملة وشفافة، أم تخضع لرقابة إعلامية تخدم مصالح معينة؟

يستعرض التقرير حادثة الصورة الشهيرة للطفل الفلسطيني محمد زكريا أيوب المعتوق (عام ونصف) الذي ظهر نحيفاً جداً ومعدته منتفخة بشكل مروع بسبب سوء التغذية الحاد، في مشهد اختزل مأساة آلاف الأطفال في غزة. هذه الصورة التي نشرتها عدة وسائل إعلام، مثل “نيويورك تايمز”، شكلت شهادة بصرية صارخة عن واقع الحصار والحرب، لكنها أثارت جدلاً واسعاً. فقد ادعى جيش الاحتلال الإسرائيلي أن الطفل يعاني من شلل دماغي وليس فقط من الجوع، بينما أشارت وسائل إعلام أخرى إلى أمراض مزمنة سابقة يعاني منها الطفل. هذا الخلاف بين الروايات أشعل حرباً معلوماتية دفعت صحيفة إنفورماسيون نفسها إلى نشر تصحيح حول الصورة.

يُبرز هذا الحدث صعوبة توثيق الحقيقة في ظل الحصار وغياب الصحافة الخارجية، حيث يمنع الاحتلال دخول الصحافيين، ويُقتل كثير منهم خلال الحرب. إذاً، المعاناة حقيقية ولكنها مشوشة بالتضليل الإعلامي، ما يضعنا في دوامة من التشكيك والشك.

 إرهاق المشاهدين

تشير الصحيفة إلى ظاهرة “فرط الحس”، وهو إرهاق الجهاز الحسي بسبب تدفق كم هائل من الصور والمعلومات المتناقضة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. تتشابك في الخلاصات الإخبارية صور الدمار والأطفال الجائعين مع إعلانات الإغاثة ومقاطع فيديو الترفيه، ما يؤدي إلى حالة من الارتباك والسأم. توضح إنفورماسيون أن هذه الاستراتيجية الإعلامية، سواء كانت مقصودة أو غير مقصودة، تجعل الجمهور غارقاً في حالة من “شلل الحركة” أمام المعاناة التي يراها، فتتحول المأساة إلى شيء بعيد وغير واقعي، ويضعف تفاعل الجمهور الحقيقي معها.

تأطير الصور: من يختار المشاهد؟

يقدم الملحق الثقافي تحليلاً دقيقاً ومفصلاً لكيفية “تأطير” الصور في وسائل الإعلام. فالصور التي نراها “غالباً ما تكون مختارة بعناية، تُصوّر بطريقة تكرّس أنماطاً نمطية عن الفلسطينيين، مثل الطفل الضعيف، الأم الباكية. وتضيف: “بحسب الفيلسوفة جوديث باتلر في كتابها أطر الحرب، فإن بعض الأرواح تُصنف بأنها قابلة للحزن بينما يتم تجاهل أرواح أخرى”. تتابع: “وهذا التأطير لا يعكس فقط المأساة الإنسانية، بل يخدم أيضاً سرداً سياسياً معيناً يُعرّف من يستحق أن يحزن عليه الجمهور”. كما تُبرز إنفورماسيون أن الصور ليست فقط وسيلة توثيق بل أداة سياسية وثقافية، وتؤثر على الرأي العام والوعي العالمي.

الصورة دليلاً ونصاً سينوغرافياً

تحدثت الصحافية ماري ناجا لوريتزن دياس في التقرير عن ازدواجية الصور في الحروب المعاصرة، مؤكدةً أنها تستخدم كدليل ملموس على انتهاكات حقوق الإنسان، وفي الوقت نفسه تصبح جزءاً من “السينوغرافيا الحربية” التي تؤطر المشهد بطرق معينة. فالصور تحمل شهادات مرئية عن العنف والدمار، لكنها تتضمن أحياناً عناصر درامية ورمزية تجعل المتلقي يتعامل معها كعرض مسرحي، ما يثير تساؤلات حول أصالة وصدق الصور.

الاعتياد على المعاناة: التسوية البصرية

يحذر التقرير من ظاهرة خطيرة تتمثل في “الاعتياد” على صور الدمار والمعاناة، بحيث تصبح مألوفة ولا تثير ردات فعل قوية، ما يُفقد المجتمعات حساسيتها تجاه المآسي. ويستشهد التقرير بأعمال الفنان روبرت لونغو التي تصور الدمار بشكل موحد، ما يرسخ فكرة أن مشاهد الحروب أصبحت جزءاً من “المشهد الطبيعي” للحياة، وهو ما يؤدي إلى تقليل الضغط على الحكومات والمنظمات للتدخل.

الحياة خلف الصور: فلسطينيو غزة يعيشون رغم الحرب

في الختام، يدعو التقرير القارئ إلى تذكر أن غزة ليست فقط مشاهد موت ودمار، بل مكان يعيش فيه الناس حياتهم اليومية، يبدعون، ويقاومون من خلال الفن والثقافة. ويشير الملحق الثقافي إلى معرض “بينالي غزة” الذي يعرض أعمالاً لفنانين فلسطينيين لم يستطيعوا مغادرة القطاع، كمقاومة ثقافية تكسر التجانس المرعب لصور الحرب.

في المحصلة، تقدم صحيفة إنفورماسيون الدنماركية في ملحقها الثقافي قراءة معمقة وطويلة حول كيفية تشكيل صور الحرب على غزة، وتأثيرها المعقد على الرأي العام الغربي، والأبعاد السياسية والثقافية المرتبطة بها. ويطرح الملف أسئلة ملحة حول مصادر الصور، دقتها، التلاعب الإعلامي، والاستجابة الإنسانية أمام مشاهد المأساة المتواصلة. يبقى السؤال عندها: هل نرى الحقيقة كاملة؟ ومن يقرر ما نراه وكيف نراه؟

ويحث الملحق الصحافة والجمهور على البحث عن الحقيقة الكاملة، والامتناع عن الانجرار خلف صور منتقاة أو محرّفة، مع الوقوف إلى جانب الإنسان في قلب المأساة وليس فقط في ظلال الصورة.