رحيل جورجيو أرماني… بيان الأزياء عن الحرية والجمال

منذ غيابه عن عرضه Armani Privé في تموز/تموز الماضي في باريس، بسبب إصابته بنزلة صدرية، منعته من السفر، كان واضحاً أن رحلة جورجيو أرماني قد شارفت على نهايتها، ليغادر عالمنا في الرابع من أيلول/أيلول 2025، عن 91 عاماً. 
لم يكن أرماني مجرد مصمّم أزياء، بل مؤلف أسلوب كاملاً، أعاد تعريف العلاقة بين القماش والهوية، وحرّر البذلة من صرامتها التاريخية ليحوّلها إلى بيان عن الحرية والخيارات الشخصية.
على امتداد أكثر من أربعة عقود، كان أرماني شاهداً على تحولات الموضة فحسب، وطبعاً من صانعيها الكبار. بنى إمبراطورية بدأت من واجهات عرض متواضعة في ميلانو، لتمسي اليوم لغة جمالية عالمية تعكس فكرة الأناقة المتخفّفة من التعقيدات. أسلوبه الذي اتّسم برقي مدهش ببساطته تسلّل إلى كل مكان: شوارع ميلانو، وشاشات هوليوود، والسجادات الحمراء، وحتى خزائن الناس بمعزل عن وضعهم المادي. لم يكن يرسم خطوطاً للموضة الموسمية بقدر ما كان يعيد تعريف البساطة بكل جمالياتها.
وُلد جورجيو أرماني في 11 تموز 1934 في مدينة بياتشنزا شمالي إيطاليا، لأسرة متواضعة من ثلاثة أطفال. كان الأصغر بينهم والأكثر دلالاً لدى والدته ماريا، التي أورثته حسّها الرفيع في الذوق والأناقة. بعد الحرب العالمية الثانية، انتقلت العائلة إلى ميلانو في ظروف صعبة، لكنها كانت النقطة الفاصلة التي صاغت وعيه الجمالي المبكر. بدأ أرماني دراسة الطب في شبابه، مدفوعاً برغبة في “الاعتناء بالأجساد”، كما قال لاحقاً. لكن معرفته الدقيقة بعلم التشريح كان لها أثر غير مباشر في مسيرته؛ فقد ساعدته على تصميم أزياء تُخاطب الجسد البشري، بعيداً عن القوالب الجامدة للموضة التقليدية.
ترك دراسة الطب بعد ثلاث سنوات، والتحق بالخدمة العسكرية عام 1953، ليعود بعدها إلى ميلانو، ويبدأ أولى خطواته في عالم الأزياء بالعمل في متجر لا ريناتشينته عام 1957. بدأ بتصميم واجهات العرض، إذ لفتت موهبته انتباه المارة، وأثارت اهتمام مصممين كبار، كان أبرزهم نينو شيرّوتي، الذي استدعاه عام 1964 ليعمل على خط إنتاج الأزياء الرجالية في دار شيرّوتي. منذ تلك اللحظة، بدأ أرماني في اكتشاف لغته الخاصة.

بدأ أولى خطواته في عالم الأزياء بالعمل في متجر لا ريناتشينته عام 1957 (Getty)

في عام 1975، أسس أرماني شركته الخاصة، معلناً ميلاد علامة تجارية ستغيّر وجه الموضة العالمية. كان يرى نفسه “ستِليستا”، أي مبتكراً لأسلوب، وليس مجرد خياط أو مصمم فساتين. وأول ما أقدم عليه كان ثورة ضد صرامة البذلة التقليدية: فكّك بنيتها الصلبة، وأزال البطانة الثقيلة من السترات، وقدّم سراويل أكثر خفة وانسيابية. أطلق بذلك مفهوم الملابس المريحة التي لا تقيّد الجسد ولا تخفيه، بل تعكس طبيعته وتحرّره.
لم تقف ثورته عند الأزياء الرجالية؛ فقد أعاد صياغة صورة المرأة في مكان العمل، مقدّماً بذلات فضفاضة وانسيابية تناسب نساء يدخلن سوق العمل ويجلسن خلف المكاتب أو يركضن في شوارع المدن. كان يرى في الجسد المتحرّك مركز رؤيته الجمالية، وجعل من الأناقة أداة تمكين للمرأة بدلاً من أن تكون قيداً. في عام 1976، أطلق أول خط نسائي ضمن رؤيته، لتبدأ ميلانو في منافسة باريس.
منذ أواخر السبعينيات، قدّم أرماني أسلوباً جمع بين البساطة المينيمالية والفخامة المعاصرة. لم يكن يسعى إلى إثارة الدهشة أو الصدمة البصرية؛ بل كان هدفه خلق جماليات أبدية تتجاوز الموضة الموسمية. اعتمد ألواناً محايدة من البيج والرمادي والأسود، واستخدم أقمشة خفيفة تتنفس على الجسد، وأخرى فاخرة في الشتاء تمنح الدفء من دون تعقيد. وفي مؤتمره الصحافي عام 2019 في ميلانو، خلال عرض مجموعة Transformisme، لخّص فلسفته قائلاً: “أريد أن أمنح النساء حرية أكبر وإمكانيات ليصبحن مختلفات. مقترحي موجه إلى امرأة تتحول وفق مزاجها وأحاسيسها، حيثما تشاء، وقتما تشاء”.
هذه القدرة على المزج بين الحرية والبساطة منحت أرماني مكانة استثنائية، ليس فقط في عالم الأزياء، بل في الثقافة الشعبية أيضاً. دخل أرماني عالم هوليوود من أوسع أبوابه، مساهماً في صياغة صورة الأناقة على الشاشة الكبيرة. في عام 1978، ارتدت الممثلة دَيان كيتون فستاناً من تصميمه خلال حفل أوسكار عندما فازت عن فيلم Annie Hall، لحظة ستفتح أمامه أبواب السينما الأميركية.
لكن التحوّل الأكبر جاء عام 1980 مع فيلم American Gigolo لبول شريدر، إذ ارتدى الممثل ريتشارد غير بذلات أرماني الانسيابية في دور البطل الساحر. فجأة، أصبحت البذلة علامة للحرية، والرجولة غير التقليدية، والجاذبية بلا تكلف. بعد الفيلم، تضاعفت مبيعات أرماني، وصار اسمه على كل لسان. وتوالى تعاونه مع السينما في أفلام مثل Les Incorruptibles مع شون كونري وروبرت دي نيرو عام 1987، وOcean’s Thirteen لستيفن سودربرغ، وThe Dark Knight Rises لكريستوفر نولان، وThe Wolf of Wall Street لمارتن سكورسيزي.

أرماني عام 1970 (Getty)

كان أرماني يشارك في بناء شخصيات سينمائية تعكس رؤيته للجمال والقوة، ليمسي علامة ثقافية أكثر منه مصمماً. وفي الموسيقى أيضاً، صمّم عام 2010 فستاناً لليدي غاغا مزوّداً بأنابيب مضيئة، ثم أعدّ أربع إطلالات استثنائية لجولتها العالمية عام 2012، مؤكداً مرونة إبداعه وقدرته على التجدّد حتى مع أكثر الأصوات تمرداً في الثقافة الشعبية.
لم يكتف أرماني بعالم الأزياء، بل صنع إمبراطورية متكاملة تشمل Emporio Armani للأزياء الرياضية عام 1981، وArmani Privé للأزياء الراقية، وAX Armani Exchange للشباب، إضافة إلى خطوط للأطفال والملابس الداخلية والعطور. دخل مجال العطور عام 1982 ليصبح أحد أقوى المنافسين في هذا القطاع، ثم توسّع نحو الفنادق والديكور والمطاعم، حتى باتت مجموعته تضم 500 متجر في 46 دولة.
ورغم العروض المغرية لبيع شركته، تمسّك أرماني باستقلاليته، مؤكداً أن “الاستقلال المالي هو القيمة الأساسية التي تسمح بالعمل بحرية كاملة”.
لكن مسيرته لم تخلُ من الخسارات؛ فشكّل رحيل شريكه سيرجيو غاليّوتي عام 1985 نقطة تحوّل حاسمة في حياته. بعد رحيله، تحوّل أرماني من “المصمم المبدع” إلى “المصمم ــ رجل الأعمال”، متحمّلاً مسؤولية بناء الشركة والحفاظ على رؤيتها. قال في مقابلة لاحقة: “حاولت أن أملأ الفراغ الكبير الذي تركه سيرجيو بالاندفاع الطفولي. تجاوزت العقبات، واجهت التعقيدات، واكتشفت نقاط ضعفي”.

حتى آخر أيامه، ظلّ أرماني منخرطاً في أدق تفاصيل عروضه وأزيائه، مصمماً على أن يحمل كل عمل توقيعه ورؤيته. قبل رحيله بأسابيع، كان يشرف على مراجعة كل إطلالات مجموعة الخمسين عاماً التي ستُعرض في ميلانو هذا الخريف، وكأنه يودّع عالمه الذي صنعه بيديه.