توني بلير في “ريفييرا غزّة” أيضاً

لا تُنسى الرسوم الكاريكاتيرية التي هزّأت توني بلير (72 عاما) عندما ألحق بريطانيا، إبّان كان رئيس حكومتها، في حرب الولايات المتحدة ضد العراق في العام 2003، وقد أطلقوا عليه، للسخرية منه، لقب “جرو بوش”. وهذه واحدةٌ من هزلياتٍ كثيراتٍ بشأنه تخطُر على البال، في غضون مطالعة أكثر من مقالة في الصحافتين البريطانية والأميركية، عن هذا الرجل، نُشرت في الأيام القليلة الماضية، بعد مشاركته، أخيراً، في اجتماع في البيت الأبيض مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وصهر الأخير ومستشاره السابق (والحالي فيما يبدو؟) جاريد كوشنر، ناقشوا فيه مشروع تهجير أهل قطاع غزّة لتحويله إلى “ريفييرا”، وقد ذاع أن “معهد توني بلير للتغيير العالمي” شارك في إعداد هذه الخطّة، وإن نفى صاحب العشرين عاماً رئيساً للوزراء. ولكن الاجتماع الفريد هذا لا يبعثُ على السخرية من أيٍّ من ثلاثتهم، وإنما تفيضُ منه بواعث السخرية من الحال العربي عموماً، وفي القلب منه الحال الفلسطيني المعلوم. وفيما حجبَت الإدارة الأميركية عن محمود عبّاس (و80 كان مقرّراً أن يكونوا في وفدٍ معه!) تأشيرة دخوله الولايات المتحدة للمشاركة، الشهر المقبل، في أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، لينوب عن الشعب الفلسطيني في الحديث عن فلسطين، رأى معلّقٌ في “الغارديان” هذا مستهجناً، فبالتوازي، يُستضاف بلير في البيت الأبيض ليقرّر مصائر الغزّيين، وهو المتمادي في صهيونيّته ودعمه جرائم الحرب الإسرائيلية في كل أوقاتها. ولكن الأمر في هذه الوجهة لا يستدعي الاستهجان، وإنما التحديق جيّداً في الضآلة الميكروسكوبية التي يرى بها صانع القرار في واشنطن العرب والفلسطينيين، عندما يجدهم ليسوا ذوي صلة بموضوعة غزّة، على غير حال بلير، صاحب الرأي والمشورة في أمرِهم.

لم يرشَح شيءٌ ذو قيمة إخبارية أو عملية من اجتماع الرئيس والصهر وصديقهما، وليس من حاجةٍ، ملحّةٍ، لتُعرَف تفاصيلُ ما تداول فيه هؤلاء، إنما هي العبثيّة السوداء بالغة الحدّة في شناعتها أدعى للاكتراث. وعندما يصف المعلق في الصحيفة البريطانية المرموقة، سايمون جينكينز، زيارة بلير البيت الأبيض بأنها مُقلقة، لم نصادف مسؤولاً عربياً رفيعاً أعلن قلقه منها، وإنْ تتوالى أرطالُ التنديدات العربية بخطط التهجير التي يرسمها البيت الأبيض، ويعمل جيش الاحتلال على تنفيذ الممكن منها. ولكن القصة، مرّة أخرى، ليست هنا، وإنما في الذي يُشهره ذلك الاجتماع من استخفافٍ بلا سقوفٍ بالأمة العربية، محكومين وحاكمين، وفي محمولاتِه التي تنطق بعنصريةٍ عالية الفظاظة تجاهها.

يعلن العالم رفضه الأخلاقي والإنساني لما تقترفه آلة الحرب الإسرائيلية في غزّة من فظاعاتٍ مروّعة، وتبدو المواقف المعلنة للحكومة البريطانية، بلسان وزير خارجيّتها، ضد هذه الفظاعات متقدّمةً عن المعهود في لندن من انحيازاتٍ كلاسيكيّةٍ مع إسرائيل، إذ تعتزم، أيضاً، الاعتراف بدولة فلسطين، غير أن بلير، وليس غيره، لا يريد أن يغادر مساحاتِه التي أقام فيها، نصيراً صنديداً لدولة الاحتلال وارتكاباتها، ولا يرغب في أن يتحرّر من نرجسيّاته إياها، التي تجعله يحضُر في غير شأنٍ وغير ملف، والموضوع الإسرائيلي (لم يرَ يوماً أن ثمّة موضوعاً فلسطينياً) أثيرٌ في نفسه، فلا يقدر أن يفوّتَ على نفسه قضية “ريفييرا غزّة”، التي خرجت من عنديّات أمثاله، وهو الذي لم يعُد ثمّة شكٌّ في أنه يستطيب أن يكون في أذيال أي مقيمٍ في البيت الأبيض. وهذا هو ترامب يتذكّرُه فيستدعيه لمشورته في إدارة الولايات المتحدة قطاع غزّة عشر سنوات، مع طرد من يمكن طردُه من الفلسطينيين فيه (أزيد من مليونين) وسيدفع لكلٍّ منهم (أو لكلّ من يتبقّى، لا أعرف) خمسة آلاف دولار، بالإضافة إلى إيجار أربع سنوات في مكانٍ آخر وإمداداتٍ غذائيةٍ عاماً واحداً. ثم يُعاد بناء غزّة أرضَ ناطحات سحابٍ رائعة للاستثمار في الذكاء الاصطناعي والسياحة، فتدرّ غزّة ما يصل إلى 400 مليار دولار للمقاولين الذين سيكونون من القطاع الخاص.

هناك مستوىً من الركاكة في التعامل الأميركي مع العرب، في الشأن الفلسطيني، يتحدّى سقوف الخيال. لم يكن ينقُص سيناريوهات يوم تالٍ ما زال بعيداً في غزّة إلا أن يَرى فيه مجرم حرب، كان “كُليباً” لرئيسٍ أميركيٍّ سابق، ما يَراه. وهذا وربُّ الكعبة شديدُ الإيلام من فرط مقادير الهَزَل فيه.