خلّفت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة كوارث صحية وبيئة تشكّل أرضاً خصبة لانتشار مختلف الأمراض، ولا سيّما في ظل نقص الغذاء وندرة الدواء وتلوث مياه الشرب.
لم يعد فيروس شلل الأطفال الذي اكتشف سابقاً وجوده بمياه الصرف الصحي في قطاع غزة هو الأخطر، إذ ظهر خلال الفترة الأخيرة عدد آخر من الأمراض التي لا تقل خطورة عنه، كالتهاب السحايا، والالتهابات الرئوية، ومتلازمة “غيلان باريه”. وتظهر أرقام وزارة الصحة في غزة تسجيل 452 إصابة بالتهاب السحايا، و103 آلاف إصابة بالجرب، و65 ألف حالة طفح جلدي، ونحو 11 ألف إصابة جدري مائي، و71 ألف إصابة بالتهاب الكبد الوبائي “أ”، و167 ألف حالة إسهال مصحوب بالدم، و1116 إصابة بالحمى الشوكية، و64 إصابة بمتلازمة “غيلان باريه” من بينها ثلاث وفيات.
على أحد أسرّة قسم العناية المكثفة بمستشفى الرنتيسي للأطفال بمدينة غزة شمالي القطاع، وضع الطفل عز الدين صبرة (3 سنوات) على جهاز التنفس الاصطناعي بينما يتصل جسده بوصلات طبية، وهو يعاني التهاباً حاداً في الرئتين وضيق تنفس منذ شهرين، وتعرض مؤخراً لضيق في التنفس أدى إلى توقف القلب، ونجح الإنعاش القلبي في إعادة النبض إلى قلبه، لكن الخطر ما زال يهدده. يتابع الطبيب محمد العلي حالة الطفل عز الدين ويقول لـ”العربي الجديد” إن “تكرار الالتهاب الرئوي الحاد سببه تراكم الدخان المنبعث من الصواريخ الإسرائيلية والغبار، وهذا النوع من الحالات بمجرد دخولها القسم توضع على جهاز التنفس الاصطناعي، ويستمر المريض وقتاً طويلاً على الجهاز. التجاوب مع العلاج بطيء، ويصل أحياناً إلى مقاومة المضادات الحيوية. الطفل عز الدين تعرض لانتكاستين خلال العشرين يوماً الماضية، ومن بين كل خمس حالات إدخال للعناية المكثفة يوجد أربع حالات التهابات رئوية، وجميعهم يعانون من ارتفاع درجة الحرارة، وضيق في التنفس، وألم في المفاصل والعضلات، واستجابتهم للعلاج بطيئة”.
ويعد ارتفاع عدد الإصابات بالالتهابات الرئوية والبكتيرية والفيروسية في قطاع غزة غريباً، ويفترض أن تتحسن الحالة مع العلاج، لكن ما يحصل أنه خلال العلاج يتعرض المريض لانتكاسات، وهذا شيء غير مألوف. واستقبل قسم العناية المكثفة بمستشفى الرنتيسي للأطفال خلال ثلاثة أشهر 48 طفلاً، من بينهم 17 حالة التهابات تنفسية، و9 حالات التهابات سحايا، و4 بمتلازمة غيلان باريه، وتوفي بالقسم خلال ذات المدة تسعة أطفال.
في قسم المبيت بالمشفى، تقضي الطفلة لارا البطراوي (8 سنوات) في يومها الأول بدون تنفس اصطناعي، بعد 65 يوماً أمضتها في العناية المكثفة بعد إصابتها بمتلازمة غيلان باريه. وتحكي أمها لـ “العربي الجديد”: “استيقظت ليلاً للذهاب إلى دورة المياه، وأثناء مشيها سقطت، ثم نهضت ونامت. ذهبت لإيقظها في الصباح، فلم تستجب لنداءاتي، واكتشفت انقطاع النفس، فجئت بها إلى المشفى، وأُدخلت مباشرة لغرفة العناية المكثفة”. تضيف الأم: “شخّص الأطباء إصابتها بالشلل، إذ لم تكن قادرة على تحريك يديها أو قدميها، واستمرت على جهاز التنفس لخمسين يوماً، وكانت أياماً قاسية عليها وعلينا، ثم عادت إليها الحركة، وخرجت أخيراً من العناية المكثفة. لكنها تعاني من سوء تغذية حاد، وانخفض وزنها إلى النصف، وأصبحت أشبه بهيكل عظمي، وهي بحاجة إلى تغذية خاصة، لكن لا نستطيع توفير الغذاء اللازم لها من فواكه وخضار بسبب ارتفاع ثمنه، وانعدام مصادر الدخل منذ استشهاد زوجي”.
ولا يجد الأطباء تفسيراً واضحاً للإصابة بمتلازمة “غيلان باريه”، ومن بين أعراضها ضيق التنفس الحاد، وشلل الأطراف، مع إمكانية عودتها للحركة بعد استجابة الجسم للعلاج، وخلال العلاج يتم تقديم الغذاء عبر المحاليل الوريدية، فضلاً عن فتح مجرى للتنفس في الرقبة للمساعدة على التنفس.
في غرفة معزولة عن بقية المرضى، يرقد الطفل مالك محمود طوطح (ستة شهور) مصاباً بمرض “السحايا”، وترافقه أمه. وبدأت المضاعفات الصحية تظهر عليه عقب ولادته، إذ اكتشف وجود ثقب بالظهر، ثم تكرار ارتفاع درجة حرارته. تقول أمه لـ “العربي الجديد”: “كنا نعطيه مسكّناً، فتنخفض الحرارة، ثم تعود للارتفاع مجدداً، ولا يتقبل الطعام بسبب الإسهال، وبعد الفحوص والتحاليل تبينت إصابته بالسحايا. نتردد منذ شهرين على المشفى بين مبيت وخروج من دون استجابة، وكل ما يتناوله من الحليب هو 30 سم، وأي غذاء آخر لا يتقبله، باستثناء المكمل الغذائي، ما جعله يعاني أيضاً من سوء تغذية”.
في نفس الغرفة، يوجد الطفل محمد جنيد (35 يوماً) المصاب بالسحايا، وهو يعاني من ارتفاع درجة الحرارة، والتقيؤ، والكحة المستمرة، وتقول أمه لـ “العربي الجديد”: “بعد ولادته وضعناه في الحضانة، وحين خرجت من المشفى كان وزنه 3 كيلوغرامات، وحتى الآن لم يزد وزنه نتيجة المرض والتقيؤ المستمر”.
ويعاني الأطفال من التلوث الناتج عن طهي الطعام على الخشب، ويؤثر الدخان المنبعث على صحة المواليد الجدد. ترقد الرضيعة سوار حسن قاسم (ثلاثة أشهر) بأحد أقسام المبيت في مستشفى الرنتيسي، وتقول أمها لـ “العربي الجديد”: “أثناء حملي لم يكن الغذاء الكافي متوفراً، وبالتالي ولدت بثقب في القلب، وبعد ولادتها لم يكن متوفراً الحليب أو الفيتامينات، ونتيجة عيشنا في مركز إيواء تعرضت لالتهابات بالصدر بسبب الأدخنة الناتجة عن حرق البلاستيك، وحين أصيبت بتشنج جئت بها إلى المشفى”.
أما الرضيع آدم محمد الكفارنة (ثلاثة أشهر)، فلم يغادر المشفى منذ مولده، وقد عانى نقصاً في الأوكسجين أدى إلى تلف في الدماغ والأعصاب وصعوبات في التنفس، ويعطيه الأطباء علاج لوقف التشنجات. وتؤكد أمه لـ “العربي الجديد” أن حالته لم تتحسن، رغم تجريب خمسة أنواع من الأدوية، وهي كميات كبيرة مقارنة بعمره. وتقول: “قال لي الأطباء إن علاجه يفوق إمكانات الطواقم الطبية في غزة، في ظل عدم وجود أجهزة ومستلزمات، فضلاً عن غياب العلاج. ليل نهار يصاب بالتشنج، وأصبح هكيلاً عظمياً، ما يدفع الأطباء لتنويمه، وهو أقصى ما يمكن تقديمه له، وينبغي أن يسافر للعلاج قبل فقدان حياته”.
وتمتلئ أقسام مستشفى الرنتيسي بالأطفال المرضى، وبسبب امتلاء الأسرة يقبع العديد منهم على أرضية ممرات أقسام المبيت، ويتخوف الأهالي من تكرار إخراج المستشفى عن الخدمة بعدما عاد لتقديم الخدمة الطبية في حدودها الأدنى، ويخشون إجبار الطواقم الطبية على النزوح، ما يهدد بوفاة الأطفال.