حضور ملحوظ لموضوع الدولة الفلسطينية في واشنطن عشية اجتماعات الأمم المتحدة

انتعش الحديث أخيراً في واشنطن عن “حل الدولتين”، إذ فرض التلويح الأوروبي المكرر، وبالتحديد الفرنسي والبريطاني وآخره البلجيكي باحتمال الاعتراف بدولة فلسطينية خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الحالي، الموضوع على التداول، قبل أن يأتي إلغاء الإدارة الأميركية تأشيرات دخول الوفد الفلسطيني إلى نيويورك – بطلب إسرائيلي على ما بدا – بهدف التشويش على هذه المحاولة وإحباطها، ليعزز الاعتقاد بأن التلويح جدّي وبالتالي فإن الاعتراف غير مستبعد كلياً. 

أما الرئيس دونالد ترامب فقد ترك موقفه ملتبسا، وقال في وقت سابق إن اعتزام فرنسا الاعتراف بدولة فلسطينية “لا وزن له”، لكن هذا توصيف وليس موقفا. كما أن الرئيس لم يحذر من مثل هذا التوجه، ناهيك عن التنديد به. في العادة كانت الإدارات المتعاقبة تنهى عن ذلك من باب أن مسألة الاعتراف متروكة للتوافق عبر التفاوض بين الفلسطينيين والاسرائيليين. ترامب تركها ملتبسة.

على أي حال، الموضوع مطروح منذ بدايات الحرب. فقد سبق وتردد أن الرئيس الأميركي السابق جو بايدن كان ينوي الاعتراف بدولة فلسطينية “خلال 2024 قبل انتهاء ولايته”، لكنه في الواقع لم يتجاوز المناورة والتلميح الملتبس في هذا الخصوص، إذ لم يكن بمقدوره ولا برغبته المضي في هذا السبيل، لكن إشارته انطوت على قناعة ضمنية بأن استمرار الحال في غزة والضفة من المحال. وقد جرى التعبير عن ذلك من خلال تشديد العارفين على أن استمرار الحرب “بدون أفق سياسي” محكوم بالانسداد والمراوحة وبعدم القدرة على منع وقوع انفجارات مشابهة في المستقبل. 

وكان ريتشارد هاس، الخبير في الشؤون الخارجية ومدير التخطيط السياسي في وزارة الخارجية في زمن الرئيس بوش الأب، من أبرز الذين شددوا على هذه الحاجة. وقد عاد اليوم إلى الموضوع وسط الحديث عن التوجه الاوروبي بشأن الاعتراف، ليشدد في مقالته في مجلة فورين آفيريز على أهمية العودة الآن إلى حل الدولتين، داعيا إسرائيل إلى العمل به باعتباره “الخيار الأفضل لضمان أمنها”، مع تحذيرها من خطر التحول إلى دولة “منبوذة” دولياً ومحكومة “بالعودة إلى الحروب بلا نهاية”. 

لكن في الوقت ذاته وبالرغم من تأكيده على أهمية حل الدولتين، يرفض هاس الموقف الأوروبي الساعي في هذا الاتجاه، بزعم أن مبادرة الأوروبيين قد تفسر باعتبارها “مكافأة لحركة حماس”. في حقيقة الأمر أن واشنطن لا تتقبل أقل من احتكار الملف الإسرائيلي – الفلسطيني، حتى أن مبادرات الحليف مرفوضة ولو كانت تلتقي مع الخيار الأميركي. هاس ينقض ضمنا المذهب الأمني الإسرائيلي القائم على القوة العسكرية وحدها، ومثله رئيس هيئة الأركان السابق الجنرال مارك ميلي الذي سبق وحذر إسرائيل من التعويل على الإفراط في استخدام القوة “لأنه يستولد تجذير العنف” وليس الرضوخ. ومع أن هذه القراءات تنطوي على تعب من انفلات إسرائيل العسكري، لكن عندما يأتي الأمر للاعتراف بدولة فلسطينية، يحضر الاعتراض الأميركي على أساس أن في ذلك تجاوزا للخط الأحمر.

مع ذلك، يدعو هاس الرئيس ترامب إلى توظيف رأسماله الفريد لدى إسرائيل، وبالتحديد مع نتنياهو، لحمله على قبول هذا الحل “الجيد لإسرائيل”، قبل أن تفوت الفرصة التي تقف على حافة التلاشي. الرهان على أن يشده طموحه إلى الفوز بجائزة نوبل للسلام، كما أن هناك حسابات انتخابية قد تساهم في دفعه نحو هذا الخيار، حيث إن الرأي العام تأثر بحرب غزة ورافض لسياسته ازاءها، وكشف آخر استطلاع لجامعة ماريلاند أن 28% من الأميركيين متعاطفون مع الشعب الفلسطيني فيما 22% مع إسرائيل.

إضافة إلى هذه الحوافز السابقة، يحتاج ترامب إلى إنجاز خارجي، إذ إن قمة “منظمة شنغهاي للتعاون” التي انتهت بعرض عسكري صيني استوقف الجهات الأميركية المعنية، حيث شملت المشاركة فيها عشر دول، بينها الصين والهند وروسيا، وبما بدا كرسالة واضحة لواشنطن مفادها أن ملامح نظام دولي منافس للغرب بدأت تتشكل بقيادة الصين التي “تطرح نفسها منافساً اقتصادياً وعسكرياً” على الساحة الدولية. ويزيد خشية الأميركيين أن هذه النقلة تحصل في ظل غياب ملحوظ للحضور الأميركي على هذه الساحة وفي إعقاب فشل الإدارة في معالجة نزاعات دولية كانت قد وعدت بحلها خلال فترة وجيزة. فلا حلول ولا محاولات بهذا الاتجاه في الوقت الراهن. فهل يكون تحدي الدولتين البديل القادر على تعويض خسائر الإدارة؟