الجزائر 2040… لماذا لا نعيد التّفكير؟

كان هناك مشروع لاستشراف مستقبل الجزائر في 2030 على الأصعدة كافة، وجرى اتّخاذ إجراءات عمليّة لخطوات التّحرُّك في أفق بلوغ ذلك التّاريخ باستراتيجيّات وسياسات يرافقها تسخير إمكانات البلاد من مقوّمات وكفاءات في سبيل وضع الجزائر على خطى البلدان النّاشئة. وبما أنّ ذلك التّاريخ قريبٌ، وكانت هناك كبوات حالت دون بلوغ تلك الأهداف المسطّرة مع بقاء حيازة الجزائر على المقوّمات والكفاءات التي يمكنها تحقيق الهدف، فهل بالإمكان تحديد تاريخ آخر، مثلا 2040، ووضع خطط لبلوغ ما لا يمكن أن نبلغه في 2030؟

بداية، لا يمكن الحديث عن استشراف من دون إدراك خطوات شاقّة تُسخّر لها التّصوُّرات في رسم المتغيّرات ومنحنيات توجُّهها بخلفيّة مواجهة كلّ الخيارات والاحتمالات وبهدف واحد، إدراكاً وعمليّاتياً، يتضمّن بلوغ الهدف المسطّر أو على الأقل أن يبدو أنّ المسار صحيح وإن بتقويمات وتصحيحات لأخطاء قد تُعطّل المشروع وتحتاج، مرّة بعد مرّة، بعد التقييمات اللّازمة، إلى تصحيح وتقويم، وهي أساسيات السّياسات العامّة في خطواتها المعروفة، مضافا إليها عنصر حيوي، وهو التّعلُّم من الأخطاء لتجنُّب تكرارها.

شهدت الجزائر، في العشريّة الأخيرة، أحداثاً كثيرةً، لعلّ أهمّها الحراك الشّعبي الذي حال دون ارتكاب خطأ جسيم، التّجديد لرئيس مقعد، رحمه الله، ولعصابة كانت قد استولت على مقدرات البلاد وعاثت فيها فساداً، ما أحال مشروع الجزائر 2030 إلى الفشل. وطبعا، في مثل هذه الحالات، المسمّاة في السّياسات العامّة التّعافي بعد الأزمات، ينصبّ العمل على مراجعة المسار، تصحيح الأخطاء، التّعافي من الكبوات، حساب حجم الخسائر، إضافة إلى عامل آخر، حيوي جدّاً، حساب حجم الأضرار التي طاولت المشروع ونسبة تعطُّل تجسيده، بل نسبة العطب التي يمكن أن ترجع بها البلاد إلى الوراء بسبب حجم الأعطال التي كان الفساد، أساسا، قد نخر به في جسم المشروع وألغاه، تماما، بكلّ ما تحمله العبارة من معنى.

لا يمكن الحديث عن استشراف من دون إدراك خطوات شاقّة تُسخّر لها التّصوُّرات في رسم المتغيّرات

احتاجت الجزائر، للتّعافي، إلى إجراءاتٍ عمليّة تكون في حجم تحدّي تعطُّل المشروع مع رسم مشروع آخر، متخيّل، الآن، في ذهن كاتب المقالة، مع وجود علامات على رسم له في إدراك صانع القرار من خلال بعض الإجراءات وخصوصاً في المجال الاقتصادي بإقرار مضاعفة حجم النّاتج المحلّي ليكون في مصاف ناتج الدُّول النّاشئة، وهو ما سنتّخذه مقياساً لكلّ ما سنتحدّث عنه من مشاريع، خطوات عمليّة وتقييمات/ تقويمات للسّياسات العامّة في سبيل تصوُّر مشروع الجزائر 2040.

انطلق ذلك التّعافي من جرد مناحي القصور التي جرت ملاحظتها من فساد مالي، تعطُّل آلة الإنتاج، انهيار الاستثمارات المنتجة إضافة إلى غياب كلّي لعوامل جاذبية الاقتصاد الجزائري بشأن الاستثمارات الخارجيّة، ما أبرز جزائر معطّلة زادها انحدارا عاملان تظافرا، هما بروز سلبيات اتّفاقية الشّراكة مع الاتّحاد الأوروبي وضررها على الاقتصاد الجزائري، من ناحية، وتوجُّه النّفط إلى انهيار الأسعار، من ناحية أخرى، بداية من 2014، كما لا يمكن التّغاضي عن دور مشبوه لطبقة رجال أعمال فاسدين استولوا، بدون وجه حقّ وبدون أيّ قيمة إضافية للاقتصاد، على قروضٍ كثيرة (بمليارات الدُّولارات) وحصلوا على مشاريع وهميّة أو أنجزوا أخرى من دون إكمالها بحجم مالي فاق كلّ التّوقُّعات وأفرغ الخزينة العمومية، وأدخل البلاد على شفا افلاسٍ، كان الوزير الأوّل الأسبق أحمد أويحيى أوّل من تحدّث عنه قبل انطلاق الحراك، في شباط/ شباط 2019، ما وضع الجزائر، لاستعادة أنفاسها، في وضع حرج وفي حاجةٍ إلى سياسات مستعجلة لجرد أوجه القصور، وقف الانهيار، إيقاف الفاسدين، ثمّ رسم خطط للتّعافي على كل الأصعدة من مفاتيحها العودة إلى الاستقرار السّياسي، ثم الانطلاق في برنامج عمل مستعجل.

يستدعي نجاح التّخطيط الاستشرافي، بكلّ أهدافه، رسم خطوات جديدة

من خلال تشخيص وضع الجزائر في ولايات الرّئيس الرّاحل عبد العزيز بوتفليقة الأربع (1999-2019)، وما جرى فيها، ومن خلال الاعتراف بأنّ ما جرى تسطيره من أهداف استشرافية كان مرسوماً للجزائر أن تصل إليها، فإنّ التّالي، من خطوات/ سياسات/ توجُّهات أمران حيويّان، بدأ العمل بالأول من خلال سياق التّعافي، بسلبيّاته وإيجابياته، منذ سقوط خيار الولاية الخامسة للرّئيس بوتفليقة وانطلاق الجزائر في تبنّي سياسات مغايرة.

الأمر الثّاني تسطير أهداف للجزائر، منها ما هو على المستوى القصير (في غضون 2030)، ومنها ما هو على المدى المتوسّط (في غضون ما نقترحه 2040)، ذلك أنّ التّعافي من الأخطاء بعد تبنّي التّقويمات الصّائبة يحتاج وقتاً يتمُّ فيه امتصاص صدمات الانحدار مع إيقاف مساره، ثمّ اتّباع سياسات تعيد قطار التّنمية إلى مساره الصّحيح، مع العلم بإجراءاتٍ صارمةٍ لتفادي تكرار الأخطاء وقياس حجم التّعافي بأقلّ الخسائر واعتماد سياسات عامّة كفيلة بالوصول، هذه المرّة، إلى ما جرى التّخطيط له مع تحديد جملة الأهداف في تغيير وضع الاقتصاد الجزائري، مكانة الجزائر، حجم النّاتج المحلّي وغيره من الأهداف الاستراتيجية ذات القيمة المضافة لمستقبل الجزائر.

في النّتيجة، يستدعي نجاح التّخطيط الاستشرافي، بكلّ أهدافه، رسم خطوات جديدة، لأنّ ما لم يتمّ تحقيقه يكون قد تجاوزه الزّمن وما تمّ إنجازه، في ظلّ منظومة الفساد، لا يمكن اعتباره إلّا منتجاً يحتاج مراجعة دقيقة وإلّا جرى لفظه، وبخاصّة أنّ المخطّط الجديد، الجزائر 2040، يأتي في ظلّ متغيّرات تشهدها البلاد على كل الأصعدة، سواء بشأن الخروج من الرّيع وتحويل الاقتصاد الجزائري إلى اقتصاد يعمل لتحقيق الأمن الغذائي ويؤمّن إمكانات كبيرة للتّصدير أو بتحويل المجتمع، برمّته، إلى مجتمع للكفاءات التي ستضطلع، بمؤهّلاتها، بمهمّة إنجاز القفزة الاقتصادية وتحقيق المكانة التي تستحقُّها الجزائر، أي التّحوُّل إلى دولة ناشئة بحجم ناتج قومي يراوح بين 400 و500 مليار دولار. وبنسب نمو سنويّة، على شاكلة المقاربة الصّينية أو الفيتنامية، تراوح، في الاثنتي عشرة سنة المقبلة (2028-2040)، بين 8% و10%، لأنّها النّسبة الكفيلة، إذا تحقّقت، وفق الاقتصاديين، بإنجاز النّقلة النّوعية وبلوغ الأهداف المسطّرة لجزائر تمتلك كل مقوّمات البلد الكبير، على الأصعدة كافة.

منظومة فساد استفادت من غياب الرّقابة، واستبعدت، لتحقيق مآربها، الكفاءات والتّخطيط الاستشرافي عن بلد ضيّع كثيراً من فرص التّنمية والتّطوُّر

لا يخفى على أحد أن إنجاز ذلك الهدف المحوري يستدعي مقاربة في السّياسات العامّة، تعتمد على ثلاثيّة الكفاءة، الرّشادة والنّجاعة، مضافاً إليها ركيزتا تحمُّل المسؤولية والمساءلة، وهي متوفرة إذا أردنا استخدامها، سواء في داخل الوطن أو من كفاءات الجزائر المغتربين، كلّ في مجال اختصاصه، مع إعمال ذلك، كلّه، في إطار الجمع بين مقوّمات الجزائر الحقيقية من أراضٍ زراعية بملايين من الهكتارات وصناعية غذائية يمكن أن تمتصّ الإنتاج وتؤمّن له أسواقاً للتّصدير في بيئة عملٍ يمكن للتّكنولوجيا الحديثة من طاقة شمسية ودرونات (طائرات بدون طيّار) تأمينها في الصّحراء مترامية الأطراف، قد تنتج ما لا يمكن حصره من منتجات استراتيجية (قمح وذرة وشعير) وخضروات متنوّعة، يعيد الجزائر إلى ما كانت عليه، منذ فجر التّاريخ، سلة غذاء المتوسّط، برمّته، يحقّق مداخيل مستقرّة وينجز عملية التّحوُّل إلى اقتصاد منتج بعيد عن دائرة الرّيع التي طبعت الجزائر منذ الاستقلال، وأوردتنا مهالك المديونية، التّخلُّف، وبرامج إعادة الهيكلة، فضلا عن منظومة فساد استفادت من غياب الرّقابة، واستبعدت، لتحقيق مآربها، الكفاءات والتّخطيط الاستشرافي عن بلد ضيّع كثيراً من فرص التّنمية والتّطوُّر.

تجب الإشارة، هنا، إلى أنّنا لم نتحدّث عن تنظيم المجتمع، إعادة تشكيل الوعي، بعث روح المواطنة والتّوافق السّياسي، لأنّها عوامل دفع نحو تحقيق القفزة الاقتصادية وإنجاز عملية التّحوُّل من بلد ريعي إلى بلد ناشئ باقتصاد كبير يحقّق للبلاد عضوية مجموعة العشرين، يعيد البريق للعملة الوطنية وينخرط في نظام عالمي يمتلك إرادة إعادة تشكيل منظومة المبادلات باعتماد سلّة من العملات للمبادلات، بعيداً عن سيطرة الدولار واليورو وهيمنتهما، وبالارتكاز على أنظمة دفع غير التي تهيمن بها المؤسّسات الغربية على الاقتصاد العالمي، على غرار النّظام البديل لـ”سويفت”، كما يجب، لزاماً، لتحقيق أهداف مخطّط الجزائر 2040، إمّا مراجعة اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي أو الخروج منها بأقلّ الخسائر مع إرفاق ذلك بربط الجزائر، حتما، بعمقها الجواري (منطقة شمال أفريقيا)، والسّاحلي (الساحل وغرب افريقيا)، ما يوجد للجزائر ذلك الزّخم الذي تحتاجه القوة المتوسّطة في انطلاقها في إنجاز مشروع تبوُّء مكانة القوّة الإقليميّة، بكلّ ما تستدعيه تلك المكانة من وضع جديد ومبتكر، إمكانات وعقيدة استراتيجية تعزّز الوضع الجديد وتكرُّسه.

هذا هو المخطط البديل عن الذي لم يتحقّق منه شيء، وليس عيباً أن تراجع نفسك وتسعى إلى اعتماد مسار بديل، بل العيب، كلّ العيب، الاستمرار في اجترار الخطأ، وهو ما لا نراه، الآن، ماثلاً، بل نستبشر خيراً بما تمتلكه الجزائر من مقوّمات، ومن إرادة لتحقيق مكانة تليق ببلد له امتداد في التّاريخ، حقّق ذاته عبر تضحيات جسام، ويتوق إلى مستقبل بين الكبار.

… إنّها الجزائر في 2040، بكلّ بساطة… فهل من مُصغ.