درس محمد علي كمون العود والبيانو وموسيقي الجاز، وتعلم الموسيقى المقامية والتراث التونسي على يد شيوخه. تكللت رحلته التعليمية بحصوله على درجة الدكتوراه في الموسيقي من السوربون، ليؤهله كل ذلك إلى أن يخوض غمار التراث التونسي بأدوات عصرية؛ فقدّم موروثاً تطبعه الجدة والعصرية. وللحديث عن مشروعاته الموسيقية المتنوعة، التقته “العربي الجديد” في هذه المقابلة.
أنت عازف بيانو واتجهت في بداية مسيرتك إلى موسيقي الجاز. ما الذي حرضك على تعديل المسار إلى التراث التونسي؟
في الحقيقة، لم تكن بداياتي مع موسيقى الجاز، بل مع الموسيقى الكلاسيكية المقامية، إذ تعلّمت على يد أستاذي الأوّل في صفاقس، السيّد الحبيب الدرقاش، وأهّلني هذا إلى المشاركة عازفَ عود ومطرب صولو في حفلات مع المنتخب الجهوي للموسيقى في صفاقس منذ سنّ الرابعة عشرة. في الوقت نفسه، شغفت بألوان موسيقية أخرى مثل الأغنية الغربية، والبوب، والراب الذي كنا نستمع إليه عبر إذاعة تونس الدولية.
أما البيانو فقد بدأت العزف عليه منذ الثالثة من عمري، واستكملت دراسته أكاديمياً لسنوات، وتتلمذت على يد كبار شيوخ المالوف، مثل محمّد سعادة وعبد الحميد بن علجية، ممّن تركوا بصمة عميقة في الذاكرة الموسيقية التونسية. في تلك الفترة، تعرّفت إلى الجاز من خلال المشهد الموسيقي التونسي، خاصة عبر حفلات عازف الغيتار والملحن فوزي الشكيلي.
بعدها قدّمت لي الدولة منحة لاستكمال دراساتي في فرنسا، حيث حصلت على الماجستير في الجاز من جامعة ستراسبورغ، في حين جاءت أطروحة الدكتوراه في الموسيقى والموسيقولوجيا من السوربون. هذا التكوين أتاح لي الجمع بين هوية المبدع الذي اغتنى من شتى الألوان الموسيقية وهوية الباحث الذي ينظر بعين تحليلية إلى التراث التونسي في ظلّ تحوّلات العولمة، وهو ما يشكّل مساري اليوم الذي يمزج بين الأصالة والحداثة.
مشروعك “24 عطر” تكوّن من أغان ومقطوعات موسيقية جمعتها من الولايات التونسية علي مدار سنوات، وضم مقطوعات لك. هل ما تحققه مثل هذه الأعمال من نجاح يوازي هذا الجهد؟
وُلِد هذا المشروع من فكرة بسيطة وإن كانت طموحة: أن نُهدي كل ولاية تونسية عطرها الموسيقي الخاص من خلال ورشات ميدانية وإبداعية، وجرى ذلك بين عامي 2016 و2017، إذ انطلقتُ في قافلة فنية وبحثية جابت كامل البلاد التونسية مع فريق من خرّيجي المعهد العالي للموسيقى، من بينهم عدد من طلابي.
خلال الرحلة، التقينا ما يزيد عن 300 فنان تقليدي، مطربين وعازفين وشيوخ مالوف ومنشدي طرق صوفية ورواة وشعراء شعبيين، كثير منهم رحلوا اليوم عن الدنيا، لكن أصواتهم ظلّت محفوظة عبر التوثيق الدقيق بالتصوير والتسجيل عالي الجودة، وبذلك حافظنا على جزء مهم من موسيقانا التراثية النادرة.
ومن تفاعل الذاكرة الشعبية مع رؤيتنا الفنية فاح “العطر”، المقطوعة الموسيقية الجديدة التي تستلهم الماضي وتُعيد تركيبه بلغة معاصرة. هذه العطور شكّلت بعد ذلك عرضاً فنّياً كبيراً هو “24 عطر”، قدّمناه لأول مرة في فعاليات مهرجان قرطاج الدولي عام 2018 بوصفه رحلة حسّية وموسيقية تسافر بالجمهور عبر كامل ربوع تونس، وقدّمناه على عشرات المسارح المرموقة، فشهده افتتاح كل من مهرجان صفاقس الدولي والمهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون، وتعرف إليه الجمهور الفرنسي في حفل أسطوري في قاعة الأولمبيا الباريسية.
أنا اليوم سعيد جداً بمشروع “24 عطر” الذي حقق نجاحاً كبيراً على مدار عشر سنوات، وأتصور أنه يحظى اليوم بجمهور واسع على المستوى الوطني، وإن كنت أتمنى أن ننظم يوماً جولة دولية لإيصال موسيقانا التونسية إلى العالم، فـ”24 عطر” ليس مجرد عرض فني، بل مختبر مستمر للبحث في التراث التونسي، ولا ينقصه البُعد التعليمي الذي يهدف إلى بث حب التراث في نفوس الأجيال الجديدة، إذ خضع المشروع للدراسة الأكاديمية في تونس وخارجها، من أجل التعرف إلى طريقة معالجة المواد التراثية باستخدام الجاز والموسيقى السيمفونية والفنون البصرية بصورة لا تخلو من الابتكار.
إلى جانب ذلك، أنتجنا فيلماً وثائقياً عن شيوخ التراث الذين تعاملنا معهم، ونشرنا خلاصة هذه الرحلة الفنية في كتاب، لكن للأسف، هذه الإنتاجات لا تزال تفتقر إلى التوزيع الدولي، ما يحد من انتشارها خارج تونس.
في عرض النوبة المعطرة، دمجت المالوف الأندلسي بالتراث الصوفي. على ماذا اعتمدت في خلق الحوار الموسيقي بينهما؟
عرض النوبة المعطرة هو جزء من مشروع 24 عطر، اعتمدت فيه على جمع مقطوعات تراثية تنتمي إلى الموروث المغاربي الأندلسي من مالوف الهلس ذي النصوص الغزلية ومن مالوف الجد أيضاً، أي الإرث الطرقي والصوفي، ودمجتهما في وصلات أو خط موسيقي متجانس، سعيت من خلاله إلى توظيف عناصر مستمدة من الجاز لإثراء التوزيع الموسيقي وبناء لغة موسيقية لعلها معقدة لكن متجانسة، مستنداً في ذلك إلى خبرة بالتلحين تراكمت على مدار سنوات طويلة.
في هذا الإطار، حرصت على احترام القواعد والمعايير المعروفة في اللغات الموسيقية التقليدية، وإن لم أستبعد خلال ذلك أسلوبي الذي يميّز أعمالي ويمنحها طابعها الخاص.
عطور، النوبة المعطرة، 24 عطر. ما سر إصرارك على استعمال كلمة عطر ومشتقاتها في تسمية أعمالك الموسيقية؟
إصراري نابع من قناعتي بأن الموسيقى، مثل العطر، تحمل في طياتها ذاكرة وإحساساً وأثراً زكياً، كما أن العطر هو في جوهره تركيب كيميائي يمزج بين روائح طبيعية لكن وفق صيغة شخصية يبدعها الصانع. انطلاقاً من المنطق نفسه، استلهمت من تراث أجدادنا ثم أعدت التركيب في لغة موسيقية جديدة منحت الموسيقى حياة معاصرة، تعبّر عن الحاضر.
لك عمل فريد هو “نوبة غرام”. ما الصعوبات التي واجهتك في أثناء وضع هذا اللون الموسيقي النادر، وما الذي يميزه من غيره؟
هذا المشروع هو أوّل كوميديا موسيقية في تونس، فخلافاً لبلد مثل لبنان مثلاً، لا نملك تقليداً راسخاً للمسرح الغنائي، وانطلاقاً من نصوص لسيرين الشكيلي لحّنت 22 أغنية، في حين اشتركنا في كتابة السيناريو، لنقدم العرض الأوّل في تونس العاصمة بدعم من وزارة الشؤون الثقافية، وقدمنا عرضاً ضخماً في إطار مهرجان قرطاج الدولي 2024. منذ ذلك التاريخ، لم ينل العمل فرصاً للترويج الوطني والدولي.
تعود الصعوبات الأساسية إلى ضعف الإمكانيات المادية وصعوبة تنظيم جولات لعروض بهذا الحجم من دون دعم رسمي، ومع أنّ مسرح الأوبرا في مدينة الثقافة هو المؤسسة المؤهلة إلى احتضان مثل هذا العمل، لكنه لم يفتح أبوابه للعرض، ولا تحول محدودية فرص العرض من اعتبار المشروع محطة مهمّة، لأنه فتح أفقاً جديداً في الساحة الموسيقية التونسية. وقد حازت إحدى أغانيه الجائزة الكبرى للموسيقى التونسية، وهو اعتراف بقيمة العمل الإبداعي وبما يحمله من إمكانات.
في مشروع التانغو العربي قدمت إعادة قراءة لمجموعة من الكلاسيكيات العربية لكل من محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان والرحابنة وغيرهم. ما الجديد الذي قدمته من خلال هذا المشروع؟
بالنسبة إلى مشروع التانغو العربي، أعتبره متعة خالصة، فقد استمتعت مع تلاميذي بإعادة توزيع أغان مألوفة جداً من الموسوعة الموسيقية العربية بأسلوب شبيه بالجاز، وجاء العرض خفيفاً وديناميكياً وأنيقاً ولا يشبه غيره، لكن لم يُوزع بعد على نطاق واسع لأسباب مشابهة لتلك التي تواجه بقية مشاريعي.
أنتجت مئات الأعمال، لكن للأسف، تحدّ قلة وسائل الإنتاج، كذلك ضعف التوزيع من الوصول إلى جمهور أكبر، مع ذلك، يزداد جمهورنا باستمرار، ونأمل أن نتمكن من الوصول بهذه الأعمال إلى خارج تونس قريباً.
عروضك الموسيقية ذات كلفة عالية نسبياً، فلا يخلو أغلبها من الغناء والرقص والاستعراض. كيف تعالج جانب الإنتاج؟
صحيح أن عروضنا الموسيقية غالباً ما تكون ذات كلفة عالية، إلّا أننا نتحايل على ذلك من خلال شراكات نعقدها مع فنانين وفرق موسيقية أوركسترالية عبر العالم، خاصة في العروض الكبرى، ونعمل دائماً على شراكات مع مؤسسات ثقافية وداعمين لتأمين التمويل الضروري. ولتغطية التكاليف نسعى إلى نشر أجزاء من الإنتاج على المنصات الرقمية، بغرض الوصول إلى جمهور أوسع، وللمساهمة في تغطية جزء من التكاليف.
ما الذي تتطلع إليه خلال الفترة المقبلة من مشروعات فنية؟
أتطلع إلى مشاريع فنية أستمر من خلالها في البحث بالتراث التونسي والعربي، وأسعى إلى صياغة أسلوب موسيقي متفرد ولغة موسيقية معاصرة تستلهم عناصرها الأساسية من الموروث، سواء في التلحين أو الإنتاج، والهدف الرئيسي بالنسبة لي اليوم هو نشر هذه الأعمال رقمياً.
أعمل حالياً على مشاريع تتضمن نشر أعمالي عبر المنصات الرقمية، إضافة إلى إتاحة أفلام وثائقية ومواد تعليمية خاصة بالتراث التونسي، في إطار مد جسور التواصل بين الثقافات المختلفة.