الموت والهوية يعدّان السؤالان الأكبران اللذان لا يتوقفان عن التسلل إلى الأدب والفن عبر وعي الكاتب. ينشغل بهما، يفكر فيهما، يحاول حلّ إشكاليتهما. وربما يكون سؤال الموت هو الأهم لارتباطه بالمجهول، فلم يعد أحد من الموت ليحكي لنا عما رآه هناك في الضفة الأخرى. صادفت الموت وسؤاله في ثلاث من أحدث الروايات المصرية الصادرة جميعها العام الماضي، ما أدهشني وأوقفني للتأمل أنها لثلاثة من الكتّاب الشباب، أصدر كل منهم روايتين فحسب، حيث سيطر هاجس الموت على رواياتهم الأولى، وهم: شكري سلامة في روايته “الموت عادة يومية” (بيت الحكمة)، ومريم عبد العزيز في روايتها “هناك حيث ينتهي النهر” (الكتب خان)، ومحمد عبد الرازق وروايته “بياض على مد البصر” (دار العين).
خطوط السرد
حاول كل كاتب من الكتّاب الثلاثة تفكيك سؤال الموت ودراسة فلسفته وأثره عن قرب عبر اتباع ثلاثة خطوط سردية لا تشتبك بقدر ما تتساءل وتراقب، وتبحث وتحلل أثر الموت والفقد على حياة ومحيط تلك الشخصيات الروائية التي تتحطم قلوبها إثر ما تلاقيه.
فرواية “الموت عادة يومية” لشكري سلامة التي يستهلها باقتباس من وديع سعادة يقول: “هل كان عليك أن تتعلم كل الكلمات لتقول فقط وداعاً أيها الأصدقاء؟!”. ويفكك عبرها غموض الموت وهيبته في مونولوغ طويل يبحر في النفس ليقدم لنا رحلة بطله في نهر الموت وأراضيه المصرية، مستنداً إلى حديث عيسى بن هشام وعلاقته بالسكندري رابطاً بينهما وبين أبطال روايته الذين يعيشون الواقع الحالي.
بدأت الرحلة بفقدٍ يصل إلى الاطمئنان أو الحقيقة أو الانتماء
بينما تبدأ رواية “بياض على مد البصر” لمحمد عبد الرازق بموت فتاة صغيرة تغادر للتو طفولتها نحو المراهقة، وعند إعدادها للدفن نكتشف أنها قُتلت ولم تنتحر كما أدعى والدها. تأخذنا الأحداث في رحلة بين أفراد عائلة الطفلة لنعرف من قتلها، وهل ماتت بشكلت طبيعي بالفعل أم قتلت دفاعاً عن شرف العائلة؟ بتأمل الأحداث نرى كيف يمكن لموت فتاة صغيرة أن يشير لهشاشة المنظومة القيمية والأخلاقية لمجتمعٍ كامل.
تطرح الرواية تساؤلات عن معنى الشرف في مجتمع لا يرى الشرف سوى في ما بين ساقيْ فتاة لم تكد تفارق طفولتها، وها هي جسدٌ ميت وكيف كان موتها نفياً وتأكيداً لقيم مجتمعية راسخة.
وتحكي رواية “هناك حيث ينتهي النهر” لمريم عبد العزيز عن سلمى، الفتاة التي مات والدها، وفجأة يقتحم حياتها مجموعة من الرجال الأشداء الذين يعرّفون أنفسهم لسلمى بأنهم أعمامها، ثم يحملون جثة أبيها ويرحلون، إلى أين يرحلون ولِمَ لَم يأخذوها معهم لدفنه؟ لا تعرف سلمى. كل ما تعرفه أنهم أخذوا أباها ليدفنوه في مسقط رأسه رشيد؛ المدينة البعيدة التي تقع على مصبّ نهر النيل عند البحر المتوسط.
في مغامرة غير محسوبة، تقرر سلمى السفر إلى رشيد للبحث عن قبر والدها، فينكشف لفتاة القاهرة عالماً مخيفاً في تلك المدينة الوادعة، وعوضاً عن قبر أبيها، تعثر على مئات القبور لآلاف الشباب الذين يختارون الهجرة عبر البحر إلى أوروبا بدلاً من وطن لا يجدون فيه موطئ قدم لهم ولأحلامهم. لم تصل سلمى إلى قبر أبيها ولم تعرف عائلتها، والموت الذي ظنته نهاية طريق كان بداية طريق آخر، لانتماء جديد، وعائلات جديدة ضمّت سلمى وأحبّتها.
بحث في مسارات مختلفة
كل من الروائيين الثلاثة خاض رحلته، التي بدأت بموتٍ وفقْد ليصل إلى الاطمئنان أو الحقيقة أو الانتماء. يبحث شكري عن مدينته التي تقبع هناك في عالم الموتى، بينما يؤرق عبد الرازق سؤال الحقيقة، في حين تبحث مريم عن العائلة والانتماء.
لماذا اختاروا الموت مدخلاً ومحركاً للأحداث؟ فيجيبني شكري سلامة بأن الفكرة لا تكمن في الموت بقدر ما تكمن في العزاء، أو الحكاية بوصفها وسيلة للتضامن، كل الشخصيات تقريباً تبرم اتفاقاً ضمنياً بينها في ثنائيات، ويكون العزاء في الحكاية (نفسها) هو بؤرة هذا التضامن. كان الموت بالنسبة له الوجه الأكثر غموضاً للحياة، حيث فقد الكثيرين في غمضة عين، ولم يعرف أيكتب المرء نفسه ويفتتها، أم يكتب عزاء لها!
أحداث في ظلال مدنٍ هامشية حيث يغدو أثر الموث أكثر تكثيفاً
من جهته، يقول محمد عبد الرازق إن فكرة الرواية بدأت معه من تساؤل عن قيمة حياة الفرد، وإمكانية امتهان كل شيء وتحقيره في سبيل سيطرة العادات والتقاليد أو السلطة بشكل ينمحي معه وجود الفرد، أو يبقى مجرد هامش تكميلي لتلك السلطة فقط.
فمحمد لديه هاجس بالموت، لا يخاف الموت، ولكن يخاف من طريقة الموت، لسهولته ومجانيته في كثير من الأحيان، فأي شخص قد يموت بشكل عبثي كأن لا قيمة له إطلاقاً. ثم يعقب أنه يخاف الموت في حادثة، أو إهمال طبي، أو مشاجرة، أو في حجز قسم الشرطة، دون اعتبار وكأنه مجرد شبح، أو رقم في إحصائيات عابرة، مجرداً من قيمته كإنسان.
خارج المتن
ما يلفت الانتباه في الروايات الثلاث أيضاً أن أحداثها تدور خارج القاهرة؛ في مدن وقرى الشمال المصري، وكأن كتابها يبحثون عن معنى الموت، بعيداً عن المتن المتعارف عليه في القاهرة باتساعها ولامحدوديتها، هناك في ظلال مدنٍ هامشية حيث يغدو أثر الموث أكثر تكثيفاً، ولصوته دوياً أعلى، حيث البلدات الصغيرة التي تتأرجح في المسافة التي تقبع بين هدوء وألفة القرى وصخب وعنف المدن.
فشكري سلامة اختار قطار شبين الكوم ومدينة أشمون مسرحاً لأحداثه، بينما لم يُسمّ محمد مدينته التي اختار أن تكون وسط أحراج دلتا النيل، فيما سافرت مريم إلى شمال الدلتا، حيث مدينة رشيد التي ينتهي عندها نهر النيل مرتمياً في أحضان البحر المتوسط.
في النهاية حصل كلّ بطل منهم على ما أراد، فيوسف بطل رواية “الموت عادة يومية” حصل على العزاء لقلبه عبر الحكاية الطويلة، حتى نزل من القطار مستعداً لاستكمال حياته، بينما هالة، الأم المكلومة بطلة رواية “بياض على مدّ البصر”، عرفت أنها قتلت ولم تنتحر، وعرفت القاتل وسبب قتل ابنتها.
وزارت سلمى، بطلة رواية “هناك حيث ينتهي النهر”، رشيد للبحث عن قبر أبيها واكتشفت أن المدينة صارت قبراً كبيراً، وشاهدت الآلاف يقذفون بأنفسهم في قبر مفتوح على الغرق علهم يظفرون بفرصة للحياة.
* كاتبة من مصر