منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/ تشرين الأول 2023، عادت بعض الرموز الفلسطينية إلى الواجهة من خلال اللافتات في المسيرات المؤيدة لفلسطين والأزياء ومنشورات المستخدمين لمواقع التواصل الاجتماعي وغيرها. واليوم نستعيد أحد أبرز هذه الرموز: حنظلة، الطفل الفلسطيني ذو العشرة أعوام الذي هجّره الاحتلال الإسرائيلي من أرضه فأدار ظهره للعالم في دلالة على رفضه للسياسات العالمية والإقليمية تجاه فلسطين، وفي دلالة على الأمل بعودته إلى وطنه يومًا ما. نعيد تفكيك علاقة الفلسطينيين بشخصية حنظلة في الذكرى 38 على اغتيال مبتكرها رسام الكاريكاتير ناجي العلي في لندن، بعد سنوات من الهجرة واللجوء، ما بين مسقط رأسه قرية الشجرة في شمال فلسطين المحتلة، ولبنان والكويت. كما نرصد تأثر الفنانين الفلسطينيين بمدرسة ناجي العلي التي تقدّم بساطة في التقديم وتكثيفاً في المعنى.
ناجي العلي نموذج للصدق والجرأة
في حديثها لـ”العربي الجديد”، تخبرنا الفنّانة الفلسطينية المقيمة في قطاع غزة، صفاء عودة، عن مدى تأثرها بفنّ ناجي العلي، خاصة خلال الحرب الحالية: “الكثير من أعماله تركت أثرًا عميقًا في داخلي، تحدث ناجي العلي عن كل أوجاعنا التي نعيشها اليوم، وجسّدها من خلال شخصية حنظلة الذي ظل رمزًا لرفض الاستسلام. لقد امتلك رؤية مستقبلية، وكأنه كان يدرك تمامًا ما سيحدث. فرسوماته التي أنجزها قبل عقود ما زالت تصف واقعنا اليوم بدقة مؤلمة”. تؤكد عودة أن العلي بالنسبة للفنان الفلسطيني أيقونة ونموذجاً للصدق والجرأة والشفافية: “من خلال رسوماته تعلّمت أن الفن رسالة ذات موقف ومعنى، وليس مجرد خربشات للتسلية. لقد تأثرت به كثيرًا”، تضيف عودة.
وإلى جانب حنظلة، تشير عودة لشخصية “فاطمة” في لوحات ناجي العلي، مؤكدة أنّ المرأة في لوحاته ظهرت دائمًا قوية وصابرة وحاضرة بما هي رمز للأرض والأم والوطن. “لم تكن المرأة عند العلي مجرد عنصر ثانوي، بل منحها دور البطولة في مواجهة القهر والتمسك بالأمل. وهذا ما جعلني أكثر إصرارًا على أن أرسم المرأة بصورتها الحقيقية: صامدة ومناضلة وحاملة للأمل حتى في أصعب الظروف” تقول عودة.
الناظر إلى لوحات عودة يرى ذات البساطة في التقديم والتكثيف في المعنى الذي اتبعه العلي، رسومات باللون الأسود بشكل أساسي، مع التقاطات لمشاهد مكثفة من واقع النزوح الذي تعيشه الفنانة حالياً في رفح. ترسم عودة لوحاتها وتشاركها على مواقع التواصل الاجتماعي آملة أن تكون “صدى لصوت الناس” في غزة وأن تنقل معاناتهم. “لا أريد أن تكون مجرد صور تُشاهد ثم تُنسى، بل أسعى أن تحرك مشاعر ووعي المتلقي، وتدفعه للتفكير وربما للفعل. هدفي أن يكون لفني أثر إنساني، فخلف كل عمل أقدمه هناك أرواح تحلم بالحرية”.
عودة حنظلة
أما الفنان الفلسطيني مروان نصار، صاحب لوحة “عودة حنظلة”، فيشير إلى أنه أنتج هذا العمل الفني في غزة قبل الحرب بعدة أشهر آملًا بعودة روح التضامن العربي إلى عمق القضية الفلسطينية. فبالنسبة لنصار يشكّل حنظلة “صورة للانتظار وحالة الترحال المتمثلة بالتنقل والقلق والمعاناة، واليوم يتجسّد هذا المعنى بعمق في سياق الحرب على غزة. الإنسان هنا (في غّزة) عالق في حالة انتظار لا تنتهي. طابور الماء، وطابور الخبز، وطابور يلحقه طابور…” يضيف نصار. يصف نصار أعمال ناجي العلي بأكثر من مجرد كاريكاتير سياسي، فهي برأيه “خطوط تنبض بصرخات الناس البسطاء، وتحوّل الرسم الساخر إلى أداة نضال ووسيلة لحفظ الذاكرة”. يضيف نصار: “لقد امتلك العلي قدرة فريدة على التقطير البصري، إذ كان يختصر تعقيدات القضايا الكبرى بخطوط قليلة وصور مباشرة، لكنها غنية بالمعنى. ومن خلال ذلك تعلّمت أن الفن ليس في الزخرفة أو المظهر الخارجي، بل في الموقف، والجرأة، والصدق”. يؤكد نصار أن فنّ العلي زاد من إيمانه أن الفنان لا يقف على الحياد، وأن عمله يمكن أن يكون سلاحًا للوعي بقدر ما هو أداة للجمال.
كما أن البساطة المكثّفة في لوحات العلي ألهمته لصنع أثرٍ عميق عبر خطوط قليلة تظل حاضرة في الذاكرة الجمعية، تمامًا كشخصية حنظلة التي تحولت من لوحة كاريكاتير إلى أيقونة من أيقونات الهوية الفلسطينية الجمعية. “الحرب على غزة شكّلت بالنسبة إلينا لحظة فاصلة وفرصة تاريخية كي نكون نحن الشهود، نحمل فكرة النهوض ونُعيد إحياء التراث الفكري والأدبي والفني الفلسطيني. ومن هنا، بات كل واحدٍ منّا يجسّد حالة “حنظلة” بعد طول الانتظار والتأمل، في انتظار عودة ذلك الوجه الملتفت إلينا، علّه يبشّر بميلاد حنظلة جديد يحمل صوته ووجهه نحو المستقبل”، يضيف نصار.
رأى ناجي العلي في حنظلة وفاطمة وغيرهما من شخصيات لوحاته شهودًا على حال الفلسطينيين، كما انحاز للشعوب والفئات الأقل حظاً دون مهادنة، فحققت رسوماته مساعيه هذه من خلال الأثر الذي ما زالت تتركه على الفلسطينيين حتى بعد عقود على اغتياله.