فوج جبل العرب

أمضى المؤرخ الراحل قيس ماضي فرو سنوات طويلة يجمع مادة كتابه، أو رسالته، إلى أبناء جيله، وأبناء الأجيال القادمة من بعده، وأبناء من يتحدثون العربية، وأطلق عليه عنواناً إشكالياً للغاية هو: “دروز في زمن الغفلة: من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية”.

والكتاب خلاصة مكثفة ودقيقة تتبع الوثيقة والرسالة والبحث والورقة الضائعة في الأرشيف، كي تسجّل التاريخ الحقيقي لهذه المجموعة من البشر، في نضالاتها، في قوتها، وفي ضعفها، في اختيارات الطريق الصحيح، أو في التيه، أو في الحيرة والضياع بين الخيارات المتاحة أمام أبنائها جميعاً.

كتاب قيس ماضي فرو ليس مجرد مادة تاريخية يمكن الاستشهاد بنصوصه، أو العودة إليه بوصفه مرجعاً يوضع في أحد رفوف المكتبة ويُقرأ لاستكمال بحث، بل هو في المقام الأول سيرة بشر من لحم ودم، عاشوا في الزمن القريب الذي مضى، وأنجبوا أبناءً وأحفاداً لا يزالون يعيشون بيننا.

لا يمكن إعادة شرح التاريخ للذين جاؤوا بقصد الغزو أو السبي

القسم الذي يمكنني أن أدّعي أنني أحد شهوده من الأبناء، هما الفصلان: “التحضيرات للحرب” و”معارك فوج جبل العرب”. وفيه يقدم المؤرخ سرداً لما كنّا نحن أبناء الزمن الذي تلا النكبة شهوداً عليه؛ نسمع وننصت لحكاية من ذلك الرجل الذي مضى شاباً إلى معارك الإنقاذ في العام 1948 يقود إحدى الفرق التي تشكّلت على يد واحد من أهم القادة الوطنيين السوريين في منتصف القرن الماضي، وهو فوزي القاوقجي.

يأتي القاوقجي إلى جبل الدروز في تشرين الأول/ تشرين الأول من عام 1947 ليقول: “أنا أطلب نجدة الإخوان… فكلما كانت الأمة العربية مصابة في قطر من أقطارها، تتلفت نحو هذا الجبل الذي هو… أكبر قلعة من قلاع العرب”. وبالتعاون مع سلطان الأطرش، جُنّد 500 مقاتل، في زمن شحّ الموارد المالية ونقص السلاح، لا بسبب قلة المتطوعين.

أعرف من هذه الواقعة التاريخية أنَّ عمي، والد زوجتي، كان هو الشاب نايف حمد عزام، الذي قاد فرقة المسيفرة، وهي إحدى الفرق الثلاث التي تشكّلت من الفوج الذي سُمّي: “فوج جبل العرب”، وقاده الضابط اللبناني الدرزي شكيب وهاب. أما الفرقتان الأخريان فهما: فرقة الكفر، وفرقة المزرعة، حيث مضى أولئك المتطوعون الشبان يقاتلون دفاعاً عن الوجود الفلسطيني. ذلك الضابط الشجاع، الذي أراد مع رفاقه من المتطوعين السوريين أن يصنعوا تاريخاً آخر لنا، عاد مصاباً في فخذه أثناء المعارك، ومات منذ أكثر من عشرين عاماً، ولن يرى أن بيته صار رماداً على يد جنود سوريين جاؤوا من خلف التاريخ.

لا يمكن إعادة شرح التاريخ أو تلقينه لهؤلاء الذين جاؤوا بقصد الغزو أو السبي، فنحن في القرن الحادي والعشرين. لكن الخطر في قصتنا الحزينة هو وجود المتعلمين الذين قرروا ألّا يقرأوا التاريخ، والأخطر هو حضور المثقفين الذين يقرأون التاريخ، ثم يخدعون الآخرين بأنه مزوّر، أو يسعون إلى محوه، أو تجاهل وقائعه القريبة، جرياً وراء سلطة كانت أولى رسائلها إلى العالم هي تدبير مذبحة لأحفاد أولئك المقاتلين الخمسمئة الذين مضوا للقتال ذات يوم، للمشاركة في الدفاع عن أمة كما قال الفارس فوزي القاوقجي.

* روائي من سورية