كيف يمكن أن يُكتب تاريخ لـ التصميم الغرافيكي العربي؟ وهل يمكن النظر إليه بوصفه تطوراً طبيعياً لتاريخ الخط والطباعة، أم إنه تجربة بصرية ذات مسار مستقل؟ بهذا السؤال ينطلق كتاب “تاريخ التصميم الغرافيكي العربي” (منشورات الجامعة الأميركية بـ القاهرة، 2025)، من تأليف بهية شهاب وهيثم نوار، في محاولة لرسم خريطة أولى لهذا الفن في العالم العربي.
يستعيد الكتاب بدايات الطباعة العربية في القرن التاسع عشر ودورها في نشر الصحافة والكتب والمجلات، باعتبارها الجذر الأول لتكوّن ثقافة بصرية حديثة. في القاهرة وبيروت خصوصاً، نشأت مطابع ساهمت في إدخال الحرف المطبوع وتطوير أشكال الحروف العربية، وهو ما انعكس لاحقاً على تصميم المجلات والجرائد. من هنا، يبدأ المؤلفان في تتبع التحولات اللاحقة التي جعلت التصميم الغرافيكي جزءاً من الذاكرة الثقافية والسياسية العربية.
في الخمسينيات والستينيات، ومع صعود الحركات القومية، برز جيل من المصممين والفنانين الذين جعلوا من الملصق والكتاب وسيلة لتجسيد القضايا الكبرى. حلمي التوني في مصر مثلاً، أعاد صياغة التراث الشعبي في تصميماته للكتب والمجلات، بينما قدّم السوري برهان كركوتلي ملصقات سياسية ثرية بالرموز البصرية. وفي فلسطين، لعبت الملصقات التي أُنتجت في المنفى دوراً محورياً في تكوين صورة بصرية للقضية الفلسطينية، حيث اجتمع الفن بالغرافيك ليصنع خطاباً مؤثراً في الوعي العربي والعالمي.
يربط تجارب الغرافيكيين بتحولات اجتماعية وسياسية أوسع
مع السبعينيات والثمانينيات، يتسع المشهد ليشمل تجارب تجريدية أكثر اقتراباً من الفن البصري، ومنها أعمال الفنان الفلسطيني كمال بلّاطه، الذي دمج الخط العربي بالتجريد الغربي ليخلق معادلة خاصة بين الهوية والحداثة، كما برز اسم حسن المسعود، الذي نقل الخط العربي إلى فضاء جديد أقرب للتصميم المعاصر، من دون أن يفقد خصوصيته الجمالية. هذه التجارب عكست بحثاً متواصلاً عن لغة بصرية تتجاوز الدعاية المباشرة، وتنفتح على إمكانات الفن.
أما الجيل الأحدث، فقد ارتبط بظهور المدارس الأكاديمية للتصميم، وصعود ثقافة الهوية البصرية والوسائط الرقمية. ومن بين الأسماء بهية شهاب، التي وظفت الخط العربي في مشاريع معاصرة، كما في مشروعها الفني “لا ولا ألف لا”، حيث يلتقي البحث التاريخي بالفعل الفني. وهيثم نوار، الذي شارك في تأليف الكتاب، وجمَع بين المآذارة والبحث الأكاديمي في تتبع أثر الغرافيتي والتصميم العربي الحديث. إلى جانبهم، ظهر جيل واسع من المصممين في الخليج والمغرب ولبنان، عملوا على تطوير الخطوط العربية الرقمية وتصميم الشعارات والهويات البصرية للشركات والمؤسسات.
لا يكتفي الكتاب بسرد الأسماء، بل يربطها بتحولات اجتماعية وسياسية أوسع، من الطباعة الأولى حتى لحظة الهوية الرقمية اليوم. إنه يضع التصميم الغرافيكي العربي في مكانه المستحق ضمن تاريخ الثقافة العربية الحديثة، بوصفه مرآة للتفاعلات بين النص والصورة، بين التراث والحداثة، وبين المحلي والعالمي.