وَهْمُ الخلاص: هل حلُّ الإخوان المسلمين مفتاح النهوض العربي؟

ليست دعوة جماعة الإخوان المسلمين إلى حلِّ نفسها وليدة مقال مستشار الرئيس السوري للشؤون الإعلامية، أحمد زيدان، المعنون: “متى ستحل جماعة الإخوان المسلمين في سوريا نفسها؟” (الجزيرة. نت، 22/8/2025)، إذ سبق أن طرحت هذه الفكرة أطراف متعدّدة، بما في ذلك أصوات من داخل الجماعة نفسها. وبصرف النظر، في هذه المرحلة، عن الأسباب التي ساقها زيدان، وتلك التي تبنّاها مؤيدون ومروّجون لفكرته خارج السياق السوري، تبرز هنا قضية أعمق تستحقّ الوقوف عندها: إن تصاعد الدعوات المطالبة بحلِّ الجماعة، خلال العقد الماضي ونيف، يرتبط، في جوهره، بحملة القمع الشرسة التي استهدفت فروعها في مختلف الأقطار العربية، وتحويلها إلى “بعبع” إعلاميٍّ وسياسيٍّ، يتولى جزء واسع من النظام الرسمي العربي تصديره وتوظيفه. ولا يعني ذلك أن الجماعة لم تعانِ، خلال العقود الماضية، من تكلّسٍ تنظيميٍّ وفكريٍّ، إلا أنها، رغم ذلك، بقيت رقماً صعباً (وفي بعض الدول العربية، الرقم الأصعب) ضمن المعادلات السياسية الداخلية، في ظل واقع عربي أكثر تكلّساً، وعلى جميع الصعد، من واقع الجماعة نفسها. ما سبق يشير إلى أن استهداف الجماعة يرتبط، بالدرجة الأولى، بمحاولات إخضاع المجتمعات العربية وقواها السياسية والاجتماعية الحيّة والأكثر فعالية.

تثير دعوات الجماعة إلى حلِّ نفسها جملة من القضايا الجوهرية: أولاً، إنها تمثل استجابة، بل قبولاً ضمنياً أو علنياً، بمشروعية الإلغاء والقمع الذي تآذاره أنظمة عربية بحق المعارضة السياسية. ثانياً، تنطوي هذه الدعوات على مآذارة وصاية فكرية وتنظيمية على أحد أكبر التنظيمات العربية وأكثرها امتداداً شعبياً. ثالثاً، تتزامن هذه الدعوات مع التأكيد الإسرائيلي – الأميركي المتكرّر، خلال العامين الماضيين، على مشروع “إعادة تشكيل الشرق الأوسط”، وهو ما يتطلب سحق قوى المقاومة والممانعة فيه. رابعاً، تترافق هذه الدعوات مع اقتراب واشنطن من تصنيف الجماعة منظمة إرهابية، في خطوة لا يمكن فصلها عن السياق العام لإعادة تعريف الشرعية السياسية في المنطقة بما يتماشى مع منطق التطبيع والاحتواء. خامساً، تصدُر هذه الدعوات من دون أي محاولة جادة للإجابة عن سؤالين جوهريين: ما هو البديل للإخوان المسلمين؟ وما هي خطّة المواجهة لمحاولات إعادة تشكيل المنطقة وإخضاعها، والتي يشكل تحييد الجماعة مجرّد مرحلة فيها، لا غاية نهائية.

الأنظمة التي تضع الجماعة عنواناً للرجعية والتخلف والإرهاب والفوضى هي نفسها غارقة في الرجعية والتخلف والإرهاب

لا يمثّل ما سبق رفضاً مبدئياً لفكرة حلِّ الجماعة، بل دعوة إلى التساؤل: كيف ولماذا؟ إذا كان الأمر متعلقاً بالتكلّسِ الفكريِّ والتنظيميِّ، فإن هذا ينسحب على معظم القوى الفكرية والسياسية في الفضاء العربي، بما فيها الليبرالية والمحافظة واليسارية، بل وحتى على أنظمةٍ عربيةٍ كثيرة تقود دولاً فاشلة. أما إذا كان مرتبطاً بالحملة الأمنية الشرسة التي شُنّت على الجماعة بعد “الربيع العربي”، فإن حلَّها لن يكون وصفة لتجاوز الاستعصاء العربيِّ، ولا حتى لسحب ذريعة القمع من الأنظمة. لقد كان استهداف الجماعة خلال العقد ونصف الماضيين نتيجة أنها القوة السياسية الأكثر تنظيماً وتأثيراً في الحراكات الشعبية العربية. ولو وُجد تنظيم غير إسلامي أكثر تنظيماً وتأثيراً، لكان هو هدف الاستهداف بذرائع أخرى. وهذا يعيدنا إلى سؤال بالغ الأهمية: من سيملأ الفراغ السياسي والاجتماعي والشعبي الذي سيخلّفه غياب الجماعة؟ أم أن الدعوة إلى حلَّها هي، في جوهرها، دعوة إلى القبول بدولة البطش العربية، حتى من حيث هي فاشلة ابتداءً؟ وفي السياق نفسه، يمضي مشروع إعادة تشكيل المنطقة، إسرائيلياً وأميركياً، بخطى ثابتة، وسط تواطؤٍ خسيسٍ من أطيافٍ واسعةٍ في النظام الرسمي العربي. وهنا يبرز سؤال آخر: ماذا بعد حلِّ الجماعة؟ هل من خطة للتصدي لمحاولات تفكيك المنطقة، تمييع هويتها، وإعادة رسم خرائطها؟

لا أحد يقدّم إجابات عن هذه الأسئلة، بل يكتفي معظم دعاة الحلِّ باختزال عار الواقع العربي في وجود الجماعة من عدمه، وكأن حلَّها مفتاح الخلاص. وهذا في جوهره تنصّل من المسؤولية عن واقع الانحدار العربي وضرورات التصدّي له.

مرّة أخرى، لا يسعى هذا المقال إلى الإجابة عن سؤال ما إذا كان على الجماعة حلَّ نفسها أم لا، بل يرفض جعل هذه المسألة شرطاً للنهوض أو معياراً للتردي عربياً. الأنظمة التي تضع الجماعة عنواناً للرجعية والتخلف والإرهاب والفوضى هي نفسها غارقة في الرجعية والتخلف والإرهاب، ومسؤولة عن إشاعة الفوضى. أما إسرائيل، فإن الجماعة بالنسبة لها، بما في ذلك امتدادها في حركة حماس، تمثل عقبة تجب إزالتها لتتمكّن من إعادة تطويع المنطقة بما يخدم مصالحها.

الحديث عن حلِّ الجماعة كأنه مفتاح الفرج العربي وَهْم، وخطاب العاجز، وهو المنطق نفسه الذي يرى في استسلام “حماس” وخروجها من غزّة خلاصاً لقطاع غزّة والضفة الغربية من الاحتلال والتهويد

ومن المفارقات أن زيدان يدعو إلى حلِّ جماعة الإخوان في سورية بذريعة التكلّس التنظيمي، وذريعة “كثرة المتصيّدين والمتربصين داخلياً وخارجياً” بسورية، في وقتٍ توسّع فيه إسرائيل احتلالها واعتداءاتها على سورية الجديدة، وتعبث بملف الطائفية والعرقية فيها، بذريعة أن من يحكمها “إرهابيون” و”متطرّفون”. وإذا كانت الغاية إحباط مؤامرات المتربّصين، أفلا يكون من الأولى أن تعلن هيئة تحرير الشام، ذات الجذور في تنظيم القاعدة المصنف إرهابياً، عن حلِّ نفسها، ويتخلى رئيسها أحمد الشرع عن هيئته ومظهره الإسلاميين؟ قناعتي أن الشرع لو تحوّل إلى أحد رموز الليبرالية والتطبيع، فلن يوقف ذلك مشروع إسرائيل في العبث بسورية وتفكيكها. ألم تسمعوا تصريح نتنياهو قبل أسبوعين عن “إسرائيل الكبرى”، التي تشمل دولاً لا تزال في حالة حرب معها، كلبنان وسورية، وأخرى مطبّعة، كالأردن ومصر، وأخرى تسير على خطاهما؟ أيضاً، لن يكون حلُّ الجماعة في سورية العصا السحرية لنيل الرضى الأميركي أو العربي المضادّ للثورات، فواشنطن، التي اعترفت بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل عام 2019، تعتبر إسرائيل بوصلة سياساتها في المنطقة. ومعسكر الثورات المضادة لا يقبل بأي تغيير شعبيٍّ سلميٍّ ديمقراطيٍّ، فكيف إذا كانت خلفيته إسلامية؟

باختصار، الحديث عن حلِّ الجماعة كأنه مفتاح الفرج العربي وَهْم، وخطاب العاجز، وهو المنطق نفسه الذي يرى في استسلام “حماس” وخروجها من غزّة خلاصاً لقطاع غزّة والضفة الغربية من الاحتلال والتهويد. … ليس تنظيم الإخوان المسلمين مقدّساً، وقد يحلُّ لأسباب كثيرة، لكن تحويله إلى كبش فداء للخلاص من واقع البؤس العربي هو تضليل، وتبسيط، وسذاجة سياسية.