حين تقع جريمة في سياق الإبادة الجماعية في غزة، أو في إرهاب المستوطنين بالضفة الغربية، تسارع آلة الدعاية الصهيونية لتلطيف وطأة الجريمة وتلميع صورتها أمام العالم. في استهداف مستشفى ناصر، واصل الاحتلال قصف الصحافيين والمستشفيات والمدنيين، منتهكاً كل المواثيق الدولية. وقد عبّر رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، بلسان غير عبري، عن “أسفه” لمقتل خمسة صحافيين، دون اعتذار، مكتفياً بـ”تحقيق” لا يُعوّل عليه.
أما في الخطاب العبري الداخلي، فكل من يُقتل في غزة، بغض النظر عن وظيفته، يُوصم فوراً بـ”الإرهابي”، بمن فيهم الأطفال والنساء. هذا التناقض بات بديهياً لدى الفلسطينيين، الذين خبروا خبث الاحتلال وكذبه، وسعيه المحموم للتطهير العرقي بحقهم. في مقابل لسان الفاشية والإبادة بالعبرية، هناك ما يشبهه في خنوع السياسات العربية الرسمية. خطاب “الأخوّة” والتضامن بات صدى باهتاً، يتذرع بالعجز أو بحجج الاحتلال لمنع إنقاذ الفلسطينيين من التجويع، لكنه أعجز من تفسير صمته أمام تجويع ملايين السودانيين. حدود السودان لا تُفتح لإنهاء الحصار، بل تُستغل لتغذية الصراع وإدامته. فمن يمنع العرب من تسيير قوافل إنقاذ براً وبحراً وجواً للسودانيين، لإنقاذهم من مجاعة تتسع يوماً بعد يوم؟
إن تردي مكانة الدولة العربية وتأثيرها هنا وهناك لا يضرب تلك الدولة فحسب، بل يعكس حالة عربية مريضة، باتت على موائد تقاسم يرسمها الخارج لمستقبل نحو نصف مليار إنسان. إذا كان نتنياهو ومعسكره الفاشي، المدعوم من واشنطن وآخرين، يلوّح بخرائط “إسرائيل الكبرى”، فلكل عربي حق التساؤل: أين أنظمتنا التي أقسمت على حماية أوطانها؟
وليس الاحتلال وحده من يتحدث بلسانين؛ فالعرب الرسميون يفعلون ذلك أيضاً: شعارات دعم الفلسطيني علناً، وحماسة لإخماد المقاومة سراً، بزعم تهديدها “لأمنهم”، بينما الاحتلال وحده يهددهم علناً بخططه ومشاريعه. هو الفلسطيني ذاته الذي يُوصف بأنه “شقيق”، تماماً كما السوداني، لكنه يُمنع حتى من تلقي تبرعات تسد رمق أطفاله، ويُلاحق من يحاول دعمه بالكلمة أو برفع علمه.
ما يجري اليوم لا يهدد الحاضر فحسب، بل يؤسس لكارثة مقبلة. ومواجهة خرائط الصهيونية لا تكون بالتقليل من شأنها، بل بفعل سياسي عاجل ومسؤول، يواجه الغرب بوضوح ويترك للشارع العربي حق التعبير. والمفارقة أن وزراء في أوروبا يستقيلون احتجاجاً على مواقف حكوماتهم، والمطالب تتصاعد لقطع العلاقات مع الاحتلال، بينما يواصل بعض العرب التصرف كأن لا شأن لهم… لا بما يحدث في السودان، ولا فلسطين، ولا بما يُرسم لهم في الخرائط.