لم تكن صورة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مع قادة دولٍ أوروبيةٍ، خلال اجتماعه بهم مطلع الأسبوع الفائت في البيت الأبيض، لتمرَّ من دون أن تثير ردات فعلٍ تراوحت بين الاستهجان والسخرية، وصبّ معظمها في انتقاد السياسات الأوروبية، وعجزها عن التأثير في الملفات الدولية، وفي مقدّمتها الحرب الروسية الأوكرانية بكل ارتداداتها على الأمن والاقتصاد والاستقرار في أوروبا. وقد كان الصحافي الإسباني كْلاوْدي بيريث مُصيباً حين اعتبر، في مقاله في صحيفة الباييس (21 آب/ آب الجاري)، الصورةَ تجسيداً لـ”ميثاق المَهانة” بين ترامب وأوروبا.
جلوس قادة أوروبا أمام مكتب ترامب، بذلك الشكل المهين، لم يخالف فقط المعمول به في اللقاءات بين قادة الدول، بل كان أيضاً ترسيماً رمزياً وسياسياً لزعامة الولايات المتحدة داخل المعسكر الغربي، بما يعنيه ذاك، بداهة، من تبعية أوروبا لها، وافتقادها رؤية استراتيجيةً مستقلةً، محكومةً بأولوياتها ومصالحها بوصفها قوة دولية كبرى. وعلى الرغم من أن مخرجات الاجتماع عكست ما بدا تناغماً بين الطرفين، وتحديداً في ما يرتبط بمسارات حل الأزمة الأوكرانية، إلا أنه من الواضح أن أوروبا تفقد شيئاً فشيئاً القدرة على التأثير في منعرجات هذه الأزمة، في ظل إصرار الرئيس الأميركي على احتكار إدارتها.
إصرارُ ترامب على تحجيم حضور ضيوفه الأوروبيين في البيت الأبيض، فضلا عن دلالاته الرمزية والسياسية في علاقات القوة بين الولايات المتحدة وأوروبا، يُعزّز استراتيجيّته القاضية بالحدّ من فعالية السياسة الدبلوماسية في حل النزاعات الدولية، والاستعاضة عنها بـ”سياسة الصفقات” المسنودة بخطاب شعبوي فج، في تحرّرٍ من إرث الاعتبارات الأيديولوجية والتاريخية. وهي السياسة التي يُفترض، من منظور ترامب، ألا تُفرّق بين دول الجنوب ودول الاتحاد الأوروبي؛ فدعم تشكيلات اليمين المتطرّف في أوروبا لا يختلف عن دعم الأنظمة الاستبدادية في الجنوب، التي تتوافق سياساتها الداخلية والخارجية مع البوصلة الأميركية. والحروبُ التجاريةُ مثلما تُشنُّ على الصين وروسيا والمكسيك وغيرها، تُشنُّ أيضا على الدول الأوروبية بفرض رسوم جمركية على وارداتها، من دون أي اعتبار للقواسم المشتركة معها.
تواجه أوروبا مأزقا بنيويا، فمن جهة، هي عاجزة عن إعادة جدولة أولوياتها الأمنية والاقتصادية أمام التهديد الروسي، ولا تبدو مضاعفةُ نفقاتها العسكرية حلّا استراتيجيا أمام تباين السياسات الاقتصادية للدول الأوروبية. ومن جهة أخرى، يستمر انحسارُ منسوب تأثيرها في الأزمات الدولية الكبرى. وقد كانت حرب الإبادة والتطهير العرقي والتجويع التي شنّها، ولا يزال، الكيان الصهيوني على قطاع غزّة العنوانَ الأكثر دلالة لإخفاق الاتحاد الأوروبي في وضع حدٍّ لمعاناة الشعب الفلسطيني، أو على الأقل التخفيف منها، انسجاماً مع ما يُفترض أنها قيمُه الليبرالية التي تتوسّل، ضمن ما تتوسّل به، بحقوق الإنسان في أفقها الإنساني والكوني. وليس ترويج ”حلّ الدولتين” إلا تبرئة للذمّة والضمير أمام التاريخ، ليس فقط بسبب انعدام الشروط الموضوعية الكفيلة بتحقيق هذا الحل على أرض الواقع، ولكن أيضاً بسبب عجزه عن شقّ مسار مستقل عن الإدارة الأميركية يسمح له بالتأثير في ما يشهده الشرق الأوسط من متغيرات.
يؤثر هذا المأزق البنيوي، الذي تتداخل في رسم معالمه محدّداتٌ أمنية واقتصادية واجتماعية، على مصادر القوة الأوروبية داخل النظام الدولي، كما يفتح الباب على مصراعيه أمام تشكّل ملامح نظام دولي جديد، تستفرد الولايات المتحدة بزعامته، مع ما قد يُفرزه ذلك من إعادة صياغة علاقات القوة بين الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين.
لا يبدو الاتحاد الأوروبي، على الأقل ضمن المنظور القريب، قادراً على دفع روسيا إلى إعادة النظر في مواقفها بما يعيد صياغة التوازنات الأمنية والجيوسياسية في أوروبا وفق مصالحه التي تعني، ضمن ما تعنيه، التأكيد على حقّ أوكرانيا في تحرير أراضيها التي ضمّتها روسيا والانضمامِ إلى حلف الناتو. هذا في وقتٍ تملك فيه الإدارة الأميركية القدرة السياسية والعسكرية على ذلك، وبالأخص بعد قمة ألاسكا أخيراً، والتي فتحت أفقاً جديداً لحل الأزمة الأوكرانية وإمكانيةِ التفاوض على المشهد الجيوسياسي لأوروبا.