مطلع هذا الأسبوع، ومع تصاعد موجة الغضب إثر قتل الاحتلال خمسة صحافيين (مريم أبو دقة، ومحمد سلامة، وحسام المصري، ومعاذ أبو طه، وأحمد أبو عزيز) باستهداف مباشر لمجمع ناصر الطبي في مدينة غزة، خرج رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو ليقول: “نشعر بالأسف العميق بسبب الحادث المأساوي الذي وقع في مستشفى ناصر في غزة”. تصريح نتنياهو جاء في محاولة لتخفيف موجة الغضب الإعلامية الدولية التي تلت المجزرة.
المجزرة وتصريح نتنياهو لم يكونا منفصلين عن معركة الصورة التي تخوضها إسرائيل منذ السابع من تشرين الأول/تشرين الأول 2023. فبينما تواصل الحكومة حربها الدموية في غزة تحت شعار “القضاء على حركة حماس”، تواجه إسرائيل خسارة متسارعة في الرأي العام العالمي، حيث تبدو الدعاية الرسمية ـ أو ما يُعرف في العبرية بـ”الهاسبارا” ـ عاجزة عن مواجهة صور المجاعة والدمار والضحايا المدنيين التي تتدفق يومياً عبر شاشات العالم.
صور غزة تهزم الدعاية
مع دخول حرب الإبادة شهرها الثالث والعشرين، تزداد الصور القادمة من غزة قوة وتأثيراً: أطفال يعانون سوء تغذية حاداً، رضّع بارزة أضلاعهم، أمهات يحملن أبناءهن الميتين أو الجائعين، ومشاهد لأشخاص يتقاتلون على عبوات مياه أو كيس طحين في مناطق الإغاثة.
حتى داخل إسرائيل، كسرت بعض وسائل الإعلام السائدة حاجز الصمت. فقد بثّت قناة 12 الإسرائيلية تقريراً مصوّراً نادراً عن الأزمة الإنسانية في غزة، أظهر أطفالاً يتسابقون للحصول على الطعام ونساءً يحدّقن في الفراغ وسط الخراب. رغم ذلك، قدّمت القناة هذه المشاهد ضمن سردية مختلفة: المأساة الإنسانية بكونها جزءاً من “حرب دعائية” تقودها “حماس”.
انهيار سردية إسرائيل
في بداية 2025، خصصت الحكومة الإسرائيلية 150 مليون دولار إضافية في موازنتها لتمويل ما تسميه “حملات شرح الموقف الإسرائيلي للعالم”، مبلغ يعادل 20 ضعفاً مما كان مخصصاً في السنوات السابقة.
وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، وصف هذه الجهود بأنها جزء من “حرب الوعي”، مؤكداً أن الحكومة ستوظف الميزانية في حملات إعلامية دولية، ونشاط مكثف على منصات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى برامج خاصة في الجامعات الأميركية لمواجهة المدّ المتزايد من التضامن مع الفلسطينيين.
لكن النتائج حتى الآن جاءت عكسية؛ فقد أظهرت تقارير متعددة أن الخطاب الإسرائيلي فقد فعاليته عالمياً. وأوضح مات ليب، مقدم بودكاست Bad Hasbara، أن الاستراتيجية الإسرائيلية تعاني مأزقاً جوهرياً: “يمكنك أن تقنع الحكومات الغربية بدعم إسرائيل، لكنك لا تستطيع أن تقنع الناس العاديين الذين يرون المجازر بأعينهم. كلما حاولت إسرائيل تبرير الفظائع، زاد إدراك الجمهور أنها مجرد دعاية صرفة”.
وبينما تراهن الحكومة على المشاهير والمؤثرين لدعمها، يصف ليب هذه المحاولات بأنها عقيمة: “الناس لا يبنون قناعاتهم الأخلاقية أو السياسية بناءً على ما يقوله المشاهير”.
تآكل الدعم الغربي
انعكس الفشل الإسرائيلي في “حرب الصورة” على العلاقات الدولية، حتى مع أقرب الحلفاء. فعدد من الدول التي طالما دعمت إسرائيل – بينها بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا – بات يطالب علناً بـ وقف إطلاق النار، تأثراً بالصور المتدفقة من غزة والضغط الشعبي المتزايد في شوارع تلك الدول.
وفي فرنسا، أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون أن بلاده ستصبح أول دولة ضمن مجموعة السبع تعترف رسمياً بالدولة الفلسطينية خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ أيلول المقبل. وفي خطوة غير مسبوقة، غيّرت حكومة أنتوني ألبانيز في أستراليا موقفها التقليدي، وصوّتت العام الماضي لصالح قرار يعترف بالسيادة الدائمة للفلسطينيين على أراضيهم المحتلة.
لكن ألبانيز، شأنه شأن قادة غربيين آخرين، ما زال يمسك العصا من الوسط؛ فبينما يدعم “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، يعتبر أن الاعتراف المبكر بفلسطين قد يكون مجرد “إيماءة رمزية” إذا لم يُبنَ على رؤية سياسية واضحة لحل الدولتين.
التحولات في الرأي العام العالمي
التأثير الأعمق ظهر في المزاج الشعبي عالمياً، لا في المواقف الرسمية فقط. في أوروبا، تعززت موجات المقاطعة الأكاديمية والثقافية والرياضية لإسرائيل. وفي الولايات المتحدة، حيث كان اللوبي الإسرائيلي تاريخياً في أوج قوته، يكشف طارق كيني-شوا، الباحث في الشبكة الفلسطينية للسياسات، في حديث مع موقع ذا نيو أراب، عن تغير جذري، قائلاً: “انتقلت إسرائيل في نظر كثير من الأميركيين من كونها حليفاً طبيعياً إلى دولة ترتبط بسمعة سلبية وصور إبادة جماعية”.
ويضيف أن أوامر الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية شكّلت نقطة تحول غير مسبوقة؛ إذ كانت المرة الأولى التي يُتهم فيها حليف غربي بهذه الجرائم.
هذه التطورات دفعت الحكومة الإسرائيلية إلى تعميق حملاتها الدعائية ومحاولة تشويش الصورة عبر “خلط الأوراق”، لكن بحسب كيني-شوا: “ما تفعله إسرائيل هو جعل القضية معقدة إلى درجة تدفع الناس إلى الابتعاد عن انتقادها. وهذا هو الخطر الحقيقي”.
نتنياهو بين الداخل والخارج
في الداخل، ما زال نتنياهو يعتمد على اليمين المتطرف للبقاء في الحكم، حتى وهو يخسر دعم قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي. في المقابل، يُصوّر نتنياهو نفسه باعتباره “الرجل القوي” القادر على حماية إسرائيل في مواجهة “المؤامرات الدولية” والضغط الشعبي العالمي المتزايد.
لكن هذه الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر؛ فكلما طال أمد الحرب، ازدادت الضغوط الدولية، وتصاعدت المطالب بالاعتراف بدولة فلسطينية. ومع أن أكثر من 140 دولة عضواً في الأمم المتحدة تعترف بالفعل بالدولة الفلسطينية، فإن موجة الاعترافات القادمة من دول غربية كبرى قد تشكّل هزيمة سياسية مدوية لنتنياهو ولروايته عن “القضاء على حماس”.
حرب الصورة لم تعد لصالح إسرائيل
باختصار، بعد نحو عامين من القصف والقتل والدمار، تبدو إسرائيل على أعتاب خسارة في معركة السردية. فقد انقلبت صور غزة عليها: أطفال جياع، أمهات يبكين، مبانٍ مدمّرة، وشعب كامل يعيش تحت الحصار.
ورغم مليارات الدولارات التي تُنفقها الحكومة على حملات “الهاسبارا”، تكشف استطلاعات الرأي أن الإدراك العالمي يتغيّر جذرياً. لم يعد بالإمكان إخفاء الحقائق خلف بيانات العلاقات العامة، ولا تجميل صور الحرب عبر المؤثرين والمشاهير.
لقد نجحت غزة، ولو دون قصد، في تفكيك الخطاب الإسرائيلي أمام العالم، ووضعت إسرائيل أمام معضلة وجودية في حرب الصورة: فكلما حاولت الدفاع عن نفسها، ازدادت الرواية الرسمية هشاشةً، وتراجعت مكانتها الأخلاقية والسياسية.
ربما لم تخسر إسرائيل الحرب عسكرياً، لكن في المجال الرمزي، في حرب الصورة والرواية، تبدو الخسارة أقرب من أي وقت مضى.