محمود زيباوي وإرث أيقونات القدس

عادةً ما يقودنا الحديث، عندما نأتي على سيرة الأيقونات المسيحية، إلى تتبُّع هذا الفنّ الكنسي في أصوله التاريخية القديمة، بل إلى حصر التركيز، وبشكل كبير، على حواضره غير العربية التي انتعش فيها. لكن ماذا لو وقفنا على حدوده في أواخر العصر العثماني، أي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؟ وفي مدينة مثل القدس التي شهدت خلال هذه الفترة ازدهاراً كبيراً، كما يُفيدنا معرضٌ جمَعه ونسّقه الباحث ومؤرّخ الفنون اللبناني محمود زيباوي، وافتُتح أخيراً في دار النمر للفن والثقافة ببيروت.

تعكس مقتنيات المعرض، الذي يحمل عنوان “كما في السماء كذلك على الأرض: أيقونات من القدس“، مزيجاً وتأثّراً فريداً بين مُصوّري الأيقونات اليونانيّين والروس ونظرائهم الفلسطينيين، الذين شكّلوا بمجموعهم مدرسة فنية (متأخّرة) يمكن تمييز سماتها دوناً عن غيرها من المدارس البيزنطية. وبهذا تنفتح أمام الزائر مروحة واسعة من الأعمال التي يأخذ بعضها طابعاً تذكارياً، تنامى بفضل حركة الحُجّاج، وبعضها الآخر موزّعٌ على هيئة خرائط طوبوغرافية منجزة على قطع قماش كبيرة، بالإضافة إلى أيقونات منمنمة مرسومة على القواقع والعظام وغيرها.

إعادة تقديم لتراث بصري جمعي لا يقلّ أهمّية عن الفنون الحديثة

وبطبيعة الحال، تتعدد المشاهد التي تتناولها أيقونات المعرض، وتتقاطع مع موضوعات الأيقونات البيزنطية التقليدية، من مركزية حضور المسيح ووالدته، مروراً بإعادة تمثيل سِيَر القدّيسين (خاصة الفرسان منهم)، وصولاً إلى تصوير أحوال المؤمنين والخطَاة وقصص من الكتاب المقدّس. لكن ما يميّز هذه الأعمال بالفعل هو بداية ظهور ملامح الأسلوب الشعبي المحلي فيها، والذي يذكّر بالفنّ الفطري، ممّا أضفى عليها طابعاً أكثر حيوية وطفولية مقارنة بالدِقّة النسكية الجامدة في المدارس القديمة.

من معرض محمود زيباو -القسم الثقافي

(من المعرض)

يثير المعرض، بما فيه من تراتيل أيضاً ترافق الزائر، أسئلةً حول المشهد الفني العامّ، مثل كيفية استعادة فنّ الأيقونات خارج الإطار الكنسي الصرف، عبر إعادة تقديمه تراثاً بصرياً جمعياً لا يقلّ أهمّية عن الفنون الحديثة. فالأيقونة، هنا، تحوّلت إلى مادّة فنّية قادرة على مخاطبة جمهور واسع من الباحثين في تاريخ الفن والمهتمين بالتراث، كما أنّ المتلقّي ليس المؤمن التقليدي فقط، بل المُشاهد العادي ودارس الفنون البصرية. وما يلفت الانتباه أيضاً أنّ المشهد البيروتي قلّما يحتفي بمثل هذا النوع من المعارض، بل نادراً ما يتسنى له استقبال تجربة بصرية تُعيد الأيقونة إلى واجهة النقاش الفني والثقافي.

ولعلّ هذا المعرض ليس سوى امتداد لمسار الباحث محمود زيباوي في قراءة الأيقونة ببُعدها الحيوي أكثر من كونها مادة جامدة في كتب التاريخ والمتاحف، إذ يستند في عمله النقدي والمعرفي إلى خلفية أكاديمية بدأها بكتابه “الأيقونة، معناها وتاريخها”، قبل أن يتبعه بمؤلفات أُخرى مثل “مشارق مسيحية، بين بيزنطية والإسلام”، و”الفن المسيحي الأول”، و”جداريات من واحة البجوات”، و”مجموعة الأيقونات الحلبية في دير سيدة البلمند”.

الدلالات : القدس بيروت معرض